موقف صادم ولكنه ليس غريباً عن النخبة!؟. ففى العام العاشر من البعثة؛ حاول الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ أن يكسر حاجزَ التعتيم والحصار على دعوته فاتجه إلى عرض دعوته على القبائل فى موسم الحج. حتى (أتى إلى بنى عامر بن صعصعة: فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه. فقال بَيْحَرَة بن فِرَاس أحد زعمائهم: والله، لو إنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب!؟. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟. قال: الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء. فقال له: أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه). [الرحيق المختوم] هكذا كان الموقف وفى كلمات قليلة؛ لنتعرف على جانب مهم وصادم من سلوكيات ما يسمى بالملأ أو النخبة العربية فى كل زمان ومكان. وهو هواية انتهاز الفرص وحب اقتطاف ثمار التغيير الاجتماعى وجنى ثمار التحولات الحضارية. أو بمعنى أبسط وأدق؛ وهو عادة القفز على الثورات. لهذا كان من الذكاء الاجتماعى للحبيب صلى الله عليه وسلم، وعمق قراءته لنفسية المفاوض الآخر؛ أن رفض العرض رغم قسوة المرحلة وحرج موقفه. أتذكر هذا الموقف ونحن نشاهد نفس سلوكيات النخبة المثقفة والسياسية والفكرية وهى تمارس ديكتاتورية الأقلية المتنفذة أمام مستقبل ثورات الربيع العربى خاصة بمصرنا الحبيبة!؟. فمن هم النخبة؟: لقد كان القرآن الكريم دقيقاً فى تعريف وفضح سلوكيات ومواقف النخبة أو الملأ كما سنرى. فهو يعنى بالملأ أنهم (أشراف القوم وقادتهم ورؤسائهم وساداتهم، فهم إذن البارزون فى المجتمع وأصحاب النفوذ فيه. والوصف الغالب على الملأ من كل قوم معاداتهم للدعوة إلى الله تعالى، ومن أهم هذه الأسباب الكبر وحبهم للرياسة والجاه، والجهالات التى حسبوها أدلة ويقينيات. وهم يوجدون فى كل مجتمع وفى كل زمان ومكان). [أصول الدعوة: د. عبد الكريم زيدان] فماذا عن أبرز سلوكيات النخبة ومواقفها؟!. لعل من أبرز سلوكياتهم وهذه مجرد أمثلة: 1-القفز على الثورات. وذلك كما وضحنا. 2-معارضة التغيير وكل دعوات الخير والإصلاح: فما ذكر (الملأ) فى القرآن الكريم إلا وكان موقفهم؛ هو الإعراض والتحريض على إيذاء المصلحين ودعاة الخير: "وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ. وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ". [سبأ34و35] وهو نفس إعراض رؤساء قريش وكبرائهم، وزعماء ثقيف فى رحلة الطائف. 3-لا يشاركون فى التغيير إلا عندما تُهَدَّدّْ مصالحهم: وذلك كما ورد فى قصة طالوت وجالوت: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِى لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا". [البقرة246] فالعجيب هنا أن تأتى المبادرة إلى الجهاد فى سبيل الله، من قبل الملأ. وذلك لأن خطر العمالقة وقيل إنهم الفلسطينيون الذين غلبوا بنى إسرائيل على أمرهم، قد زاد حتى هدد مصالح هؤلاء الأشراف، فأخرجوا من ديارهم، وحيل بينهم وبين أبنائهم، وأخيرا أخذ التابوت منهم وذلوا؟. 4-الكبر وحب الظهور: وذلك كما جاء فى التسرية عنه صلى الله عليه وسلم؛ وهى ألا يبتئس بما يلاقيه من عنت المفسدين؛ لأنهم سبق وكذَّبوا بمعجزات موسى عليه السلام فى نبوته وصدق دعوته؛ فأنكروها بألسنتهم رغم تصديقهم بقلوبهم: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً". [النمل14] 5-عشق الرياسة والولوع بالجاه وحب السلطة: "وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ". [ص6] أى انطلق رؤساء القوم يحرِّضون قومهم على الاستمرار على الباطل والصبر على تعدد الآلهة, ويقولون إن ما جاء به هذا الرسول شيء مدبَّر ويراد منه الرئاسة والسيادة. 6-حب التميز واحتقار العامة: وتأمل ما حدث عندما عبس صلى الله عليه وسلم فى وجه ابن أم مكتوم؛ ظناً منه أنه يشغله عن أمر أهم منه وهو فرصة قبول نخبة قريش لدعوته. فكانت المراجعة القاسية، والعتاب الخالد: "عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الْأَعْمَى. [عبس1و2] ليقرر أن هذا الفقير المعدم قيمته أعلى وأسمى من النخبة المتسلطة التى لا تريد أن تساوى بينها وبين العامة فى أى مجلس ولو كان ربانياً. والله إنا لا نعرف لغة الشارع!: كان الأصمعى سيد علماء اللغة العربية يجلس فى مجلس هارون الرشيد مع باقى العلماء؛ فكان إذا اختلف العلماء التفت إليه هارون أمير المؤمنين قائلاً: قل يا أصمعى!. فيكون قوله الفصل. وفى يوم بينما هو يدرس للناس اللغة، كان يستشهد بالأشعار والأحاديث والآيات فمن ضمن استشهاداته قال: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ". فقال إعرابى من الجلوس: يا أصمعى كلام من هذا؟. قال: كلام الله!. قال الإعرابى: حاشا لله إن يقول هذا الكلام!. فتعجب الناس وكذلك الأصمعى؛ الذى قال: يا رجل انظر ما تقول؛ هذا كلام الله، وفى سورة المائدة!. قال الإعرابى: حاشا لله أن يقوله ربنا؛ بل مستحيل!. قال له: يا رجل أتحفظ القرآن؟!. قال: لا!. فصمم على رأيه؛ حتى كاد الناس أن يضربوه؛ كيف يراجع سيد لغتهم، بل كيف يكفر بآيات الله؟!. قال الأصمعى: اصبروا؛ أحضروا المصحف. فاكتشفوا خطأ الأصمعي، وأن ختام الآية: "وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"!. فتعجب الناس وكذلك الأصمعى؛ الذى قال: يا رجل كيف عرفت وأنت لا تحفظ الآية؟!. قال: اقطعوا أيديهما جزاء بما كسب نكالا؛ هذا موقف عزة وحكمة، وليس بموقف مغفرة ورحمة!؟. قال الأصمعى متواضعاً: والله إنا لا نعرف لغة العرب!. وعندما تأتى دوماً نتائج الاستفتاءات والانتخابات على غير هوى النخبة رغم علو ضجيجهم الإعلامي. لذا فنحن نقول: لو أن نخبتنا تواضعت وراجعت نفسها، لاعترفت صاغرة: (والله إنا لا نعرف لغة الشارع)!. د. حمدى شعيب E-Mail: [email protected]