تسابق بعض الإسلاميين أمس في توزيع شرائط فيديو على نطاق واسع للمواطن حمادة صابر الذي تعرض للسحل البشع عند قصر الاتحادية على يد الشرطة وتم توزيع رسائل بريد إلكتروني على نطاق واسع بذلك تنتهي عادة بعبارة "يعني الحكاية تمثيلية يا جماعة"، وبدا الأمر كأنه احتفالية لغسيل اليد من جريمة سحل مواطن خرج في مظاهرة، الشريط عرض للمواطن المسحول بوصفه من "أبناء مبارك" وذلك في محاولة صريحة لنزع أي تعاطف معه ولرفع الإصر عن الشرطة التي ارتكبت هذه الجريمة، ولو أن هذا المواطن ليس من "أبناء مبارك" فقط، لو كان هو مبارك نفسه، لما استبحنا سحله بهذه الطريقة البشعة المخالفة للدين والأخلاق والقانون والآدمية، لقد قمنا بثورة يناير ليس من أجل أن نستبدل مرسي بمبارك، أو أي شخص آخر بمبارك، وإنما من أجل أن نؤسس دولة جديدة تترسخ فيها ثقافة حقوق الإنسان واحترام آدميته، ويشعر فيها المواطن المصري بأنه "إنسان"، ورأسه برأس أعلى رأس في البلد، ولو كان عاملًا مهمشًا باليومية ويسكن في عشش العشوائيات، قمنا بالثورة من أجل تطهير الداخلية وتحويلها إلى مؤسسة حضارية تنفض عن كيانها وساخات عهود سابقة كانت تتعامل مع المواطنين فيها بوصفهم حيوانات، يسحلون في الشوارع أو يضربون بالنار "وتتطرمخ" القضية ليضيع الدم هدرًا أو يسحقون تحت وقع التعذيب ومن مات يتم استخراج تصريح مضمون من الطب الشرعي مختومًا بختم النسر بأنه أصابته "الزغطة" فمات بهبوط حاد في الدورة الدموية، الذين سحلوا حمادة صابر عند قصر الاتحادية لم يفحصوا شخصيته قبل أن يسحلوه، ولا كانوا يعرفون حتى اسمه أو هويته، حظه الغابر وضعه بين أيدي جلاديه في تلك اللحظة، ولو كان مواطن غيره لم تكن الأمور ستختلف، ربما كان الذي وقع في أيديهم في تلك اللحظة أخوك أو ابن عمك أو ابنك أو جارك، ذهب ليتظاهر، محقًا أو مبطلًا، أو حتى مستأجرًا من أجل أن يطعم أبناءه أو يستر عوزه لأن الدولة عجزت عن أن توفر له عملًا أو مسكنًا أو أبسط شروط الحياة الكريمة حتى الآن، الجنود والضباط الذين سحلوا حمادة سحلوه كمواطن، لا يعرفون هويته ولا اسمه ولا صفته ولا أي شيء عنه سوى أنه متظاهر مناهض للسلطة، فتم سحله، وعندما كان حمادة يبرئ الداخلية من أي اتهام ويتهم المتظاهرين بأنهم هم الذين سحلوه ويقول إن الداخلية أحسن ناس وأنهم أنقذوه، رغم أن الملايين رأوا المشهد حيًا، وقتها لم تظهر أي فيديوهات تشين الرجل، ولم يتحدث أحد عن أنه بلطجي أو أنه من أبناء مبارك أو أبناء شارون، فلما تحرر من ضغوط الشرطة واعترف في النيابة بالحقيقة واتهم الشرطة وحكي ما حدث له بالتفصيل وبكى وانهار وراح يستغيث بكل الفضائيات أن تتوقف عن بث الشريط لأنه يشعر أنه يسحل من جديد كلما رأى ما حدث له، عندها فتحت له الداخلية "الكتاب الأصفر"، وبدأنا نقرأ ونسمع كل ما من شأنه شيطنة حمادة من خلال تسريبات على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار، وشعرت بالإحباط الشديد وأنا أرى "إسلاميين" يبتهجون بتلك التسريبات ويجتهدون في توزيعها وكأنهم يتقربون إلى الله بذلك، النبلاء لا يشاركون في هذه المهزلة، المتدين الحقيقي لا يسمح لضميره أن يساهم في طمس هذه الجريمة حتى لو كان ناتجها السياسي ضد رئيس نحبه أو نؤيده أو في صالح قوى نكرهها وندينها، والمحب لثورة يناير فعلًا والحريص على أن تحقق أهدافها لا يمكن أن يتورط في مثل هذه الرذائل الإعلامية والسياسية، لأننا بذلك نخون الثورة، ونرسخ لنفس الممارسات الفاجرة للشرطة التي كانت سببًا رئيسيًا في الثورة ذاتها، ونعيد إنتاج منظومة القمع والاستباحة لكرامة الإنسان، وإذا مرت واقعة سحل حمادة بدون ردع مزلزل، فإني أنا أو أنت أو أخي أو أخوك أو ابني أو ابنك سيكون المسحول المقبل بكل تأكيد، ربما يكون المسحول الثاني وربما يكون المسحول الألف، وسيضيع دمه وكرامته هدرًا، ولن يبكي عليك ولا عليه أحد وقتها، فقد سحلت يوم سحل حمادة وتسترت على ذلك، كان بشعًا ومفزعًا صبيحة الواقعة أن يُسأل المتحدث باسم الرئاسة فيتهرب ويقول إننا لا نعترف بالاتهامات المرسلة ومن كان لديه دليل يذهب إلى النيابة، فتضطر المذيعة لكي تقول له إنه شريط فيديو يراه الملايين الآن يا دكتور، كأن رئاسة الجمهورية ليس من دائرة اهتماماتها كرامة المواطنين، كأن الواقعة مجرد واقعة جنائية كخناقة بين اثنين في موقف للسيارات، هذا يكشف مستوى التخبط وضعف الإحساس بالمسؤولية لدى الدائرة المحيطة بالرئيس، صحيح أن الرئيس سارع بالاعتذار وكذلك فعل رئيس الوزراء، لكن الناس لا تنتظر كلامًا وإنما تحتاج أن ترى إجراءً سياسيًا رادعًا، لا يقل عن عزل الوزير نفسه، كدرس له وعبرة لكل من يأتي بعده، إضافة إلى الإجراء القانوني بمحاكمة عاجلة للضباط والجنود المتورطين في تلك الجريمة، فهذا وحده الذي يؤكد للناس عمليًا أن السلطة الجديدة تعمل في إطار بوصلة تحقيق أهداف ثورة يناير، وليس في إطار بوصلة من يخدم مصالحي أتسامح مع جرائمه، لقد انتصرنا بأخلاقنا، وسنخسر كل شيء إذا تخلينا عن هذا السلاح الرباني الباتر. [email protected]