على مدى الأيام القليلة الماضية، نجح المصريون في تجاوز اختبار تعديل الدستور (المادة 76) لإجراء انتخابات رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر بدلا من الاستفتاء الذي كان سائدا من قبل. مثلما نجح اللبنانيون في تجاوز استحقاق الانتخابات النيابية، التي جرت في أجواء عاصفة، اعتبرها البعض الأكثر حساسية وخطراً، منذ استقلال لبنان في أربعينات القرن الماضي. في الحالتين، ثمة مؤشرات إيجابية كثيرة، تدل على أن قطار الإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية قد انطلق، وأصبح من المستحيل كبح سرعته، ليس بسبب الضغوط الأمريكية بوصفاتها المعلبة الجاهزة فقط، ولكن أساسا بسبب الضغوط الداخلية المطالبة باستعادة حقوق الشعوب في أن تحكم نفسها بنفسها، وأن تختار ممثليها بإرادتها الحرة، وأن تفرز قوى سياسية اجتماعية تتداول السلطة عبر انتخابات نظيفة، بديلا عن نظم بادت بعد أن سادت! وقد كنا نود أن نستخدم في هذا المجال التعبير الشائع الجذاب “ربيع الديمقراطية”، الذي نتشوق إلى نسماته العليلة وزهوره اليانعة وهوائه النظيف، لولا أن المبشرين الأمريكيين غلاظ القول والفعل، قد أسرفوا في استخدامه هذه الأيام خصوصاً، فلوثوا سمعة التعبير، وجلبوا الشبهات لمن يستخدمه، وها هم قد أوفدوا لنا الجنس اللطيف، من لورا بوش حرم الرئيس، إلى ليز تشيني ابنة نائب الرئيس، حاملتين التعبير نفسه على الشفاه، مستشهدتين بربيع الديمقراطية الزاهر في العراق، رغم المقتلة الدموية الدائرة هناك بلا توقف، تعبيرا عن ديمقراطية الدم! وقد تكون هذه مناسبة لكي نعيد ونزيد ونكرر، أنه ليس معنى أن الأمريكيين يضغطون من الخارج على حكوماتنا لإجراء إصلاحات ديمقراطية، تناسب هواهم وتحقق مصالحهم أن نقف تلقائيا وميكانيكيا في الصف المناقض المعادي للديمقراطية، رفضا أو تقية، خوفا من مجرد الحديث عن الديمقراطية المقصودة. لكن الأصل والأساس أننا ننطلق من إيمان واقتناع وطني وقومي بضرورة الإصلاح الديمقراطي الشامل، الذي تأخرنا فيه وتباطأنا عنه، رغم إلحاح شعوبنا عليه ليل نهار، تعويضا عن عصور من التخلف والقهر والاستبداد والفساد، تركت آثارها السياسية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية علينا حتى أصبحنا النموذج العالمي الوحيد في نوعه الفريد في فرعه. *** الأهم الآن في نظرنا، وقد أصبح التعديل الدستوري نافذاً، هو استغلال الفترة المتبقية من اليوم حتى سبتمبر/أيلول المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية، ثم نوفمبر/تشرين الثاني موعد الانتخابات البرلمانية، لإجراء إصلاحات قانونية مهمة تنبع من الروح التي بشر بها التعديل الدستوري، وربما تتفادى سلبياته وتعيد إليه الهدف المتبقي الرئيسي، وهو استعادة الشعب لحقه في انتخاب ممثليه بالاقتراع الحر المباشر تحت الإشراف القضائي الكامل والنزيه. فإذا كان فهمي سليماً لإصرار “الجماعة الوطنية” على إنتاج إصلاحي ديمقراطي حقيقي، فإن واجب الجميع، الذين أيدوا التعديل الدستوري المحدود، والذين عارضوه أو قاطعوه أو غابوا عنه أصلا، العودة مرة أخرى إلى فضيلة الحوار حول مترتبات التعديل المذكور من ناحية، وحول استعدادات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الوشيكة من ناحية أخرى. وفي مقدمة هذا وذاك، العمل على تعديل حزمة من القوانين التي يشكو منها المجتمع ويئن، خصوصا قوانين الانتخاب، والأحزاب، ومباشرة الحقوق السياسية، والطوارئ، والسلطة القضائية، وحرية الصحافة والإعلام. ونحسب أن القوى السياسية والاجتماعية والفكرية النشطة والحريصة فعلا على الإصلاح الديمقراطي الناجز، مطالبة اليوم أكثر من ذي قبل، بأن تتكاتف وتتحالف للضغط من أجل تعديل حزمة القوانين هذه خلال الفترة القصيرة المقبلة من دون الاكتفاء بالمقاطعة والمخاصمة والامتناع، وإنما بالإسهام الإيجابي والحوار الصريح والضغط المشروع والمبادرات الخلاقة، ليس لاستعراض القوة وممارسة العراك العصبي، ولكن لتقديم القدوة والنموذج الوطني الراغب في الإصلاح الحقيقي. وبالمقابل فإن الحزب الوطني الحاكم، يخطئ التقدير كثيرا إن أخذته “العزة بالإثم”، وتصور أن نجاحه في تمرير تعديل المادة 76 من الدستور، عبر استفتاء 25/5/2005 هو دليل قوته المطلقة وشعبيته الطاغية، فيمارس العناد والمكابرة والرفض والتمنع، ضد مطالب الأحزاب السياسية المعارضة، وباقي القوى الوطنية المطالبة بالديمقراطية الآن قبل الغد. *** ونظن أنه من باب احترام العقل، أن يعي الجميع، خصوصا الأحزاب الشرعية القائمة (19 حزبا) وأولها الحزب الحاكم، أن السنوات الخمس الأخيرة، قد شهدت متغيرات عديدة في المعادلات السياسية، بعضها خارجي، تمثل في الضغوط الأجنبية للإصلاح الديمقراطي، ومعظمها وأهمها داخلي تمثل في تصاعد “الهبة الشعبية” الغلابة المصرّة على الإصلاح الديمقراطي الوطني، ناهيك عن متغيرات أخرى في خريطة العمل السياسي والقوى العاملة فيه، خصوصا “القوى الجديدة”، التي أصبحت نشيطة في الشارع والمنتديات والمظاهرات والنقابات، وتعبّر عن نفسها وعن أفكارها الجديدة بطرق مختلفة وبتحركات مفاجئة ومقتحمة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على استعادة الحيوية الخلاقة في المجتمع، ونفض غلالات الكسل والسلبية، واقتحام جريء للعمل العام، ورغبة أكيدة في اقتسام المسؤوليات والواجبات والحقوق والالتزامات، تعبيراً عن أجيال جديدة وعهود جديدة، انفتحت على عالم سريع التغير من حولنا، وهي أجيال لم تعد تؤمن بالجمود بحجة الاستقرار والثبات على المواقف التي شاخت، ولم تعد تقبل عبادة “البقرات المقدسة”، ولا ترضى بالخضوع المطلق للمحرمات السياسية المتوارثة! وبقدر ما أن المواءمة السياسية تقتضي، إذن، ضرورة تعديل حزمة القوانين المقيدة للحريات، من أجل إطلاق الحريات قولا وفعلا، الآن قبل الغد، بقدر ما أن هذه المواءمة ذاتها تقتضي قراءة المتغيرات الجذرية الجارية الآن في المجتمع المصري قراءة سليمة، ومن ثم الاستجابة لتحدياتها بمرونة وتعقل ورشد، ومن دون مكابرة أو عناد. إذ ليس صحيحا ما يقال من أن هذا المجتمع قد هرم وشاخ، بدليل تخلفه كثيرا عن ركب التقدم والديمقراطية والتنمية، الذي اقتحمته مجتمعات أصغر أو أفقر أو كانت أكثر تخلفاً ونجحت، بينما هو ظل على حاله من الجمود والتخلف. إنما الصحيح أنه مجتمع حيوي ممتلئ بالخصوبة، يجدد شبابه بنشاط لافت للنظر، فنصفه تحت سن العشرين وثلاثة أرباعه تقريبا تحت سن الخامسة والأربعين، مثبتاً مقولة أستاذنا الراحل العلامة جمال حمدان، إنه مجتمع قديم يتجدد بعافية عالية كلما قالوا عنه، إنه شاخ وتراجع إلى الضياع والفناء. وهذا هو التحدي الأعظم أمام الحركة السياسية الاجتماعية المصرية الناشطة هذه الأيام، أن تثبت لنفسها وللآخرين، أنها قادرة على إعادة صياغة المجتمع القديم الجديد بإصلاح ديمقراطي سلمي وسليم. *** ** آخر الكلام يقول حافظ إبراهيم: فاستبينوا قصدَ السبيل وجدُّوا فالمعالي مخطوبة للمُجد