كانت هذه هي العبارة التي قالها جاك شيراك بمجرد أن عرف بنتيجة الاستفتاء السلبية للفرنسيين على الدستور المقترح الموحد لأوروبا، ثم استقالت الحكومة الفرنسية، ليأتي طاقم جديد يدير دفة الحكم ويقدم حلولاً جديدة لمشكلات عالقة. تعددت التفسيرات للأسباب الكامنة وراء موقف قطاع واسع من الشعب الفرنسي تجاه الدستور الموحد، إلا أن القراءة الواضحة أن آذان السلطة كانت مفتوحة لسماع صوت الرفض، والتجاوب معه. في لبنان وفي مصر جرت أيضاً انتخابات برلمانية وفي الأخيرة استفتاء يشابه الاستفتاء في فرنسا، ووجدنا جميعاً أن الآذان كانت صماء عن سماع ما يريد الشارع أن يقول. فماذا يا ترى الشارعين اللبناني والمصري يريدان أن يُسمعا؟ في لبنان كانت نتائج انتخابات بيروت مخيبة لآمال الديموقراطيين جميعاً، فقد أقبل على التصويت اقل من عشرون في المئة ممن يحق لهم الاشتراك في الممارسة السياسية في بيروت، وفاز قبل أن تفتح صناديق الانتخاب تسعة مرشحين من ضمن تسعة عشرة، أي أكثر من نصف المرشحين فازوا بالتزكية التقليدية، وفي مصر ضج قطاع واسع من الناس بسبب انه لم تتح لهم فرصة إسماع صوتهم جراء اليد الغليظة التي قابلت احتجاجاتهم السلمية بقبضة بوليسية، حتى العاملين في وسائل الإعلام لم يتح لهم أن ينقلوا الصورة كما هي، وهاج قطاع من أصحاب المهنة احتجاجاً على ممارسات قمع الرأي. كل ذلك يطرح من جديد السؤال القديم الجديد، وهو هل الديموقراطية هي صناديق انتخاب، أم هي آذان تستمع لرأي الناس وتغير سياستها أن وجدت أن الغالبية غير مقتنعة بما تنفذ من سياسات عامة. في لبنان تعود النخبة السياسية من جديد لتنتج أزمتها وهي أزمة متكررة، ولو نظرنا إلى الماضي قليلاً وقارناه بما يحدث اليوم لدهش بعضنا من قرب المقارنة. في الماضي اللبناني القريب كانت هناك بدءاً من نهاية الستينات «سلطة» تنمو خارج الدولة، وتتوسع في الصلاحيات حتى تقلص دور الدولة، كنت تلك السلطة هي سلطة المنظمات الفلسطينية العديدة التي حكمت لبنان بالتحالف مع بعض القوى اللبنانية التي كان لها أجندة مشتركة معها، ولكن القوى الفلسطينية كانت الأقوى، ولم يكن حزب الكتائب وقتها بقيادة الشيخ بيار الجميل معادياً للحركة الفلسطينية الوطنية، بل كان يتفهم تماماً حقها التاريخي في الكفاح، ويعلن ذلك على الملأ، ما كان يزعجه وكثيراً من اللبنانيين، هو تقلًص دور الدولة اللبنانية وضموره. بدا صوته وحيداً وما لبث أن جاوره العديد من المسحيين اللبنانيين، حتى أصبح حزب الكتائب عنوان جاذب وقابل للتسويق. بقية القصة معروفة بكاملها، حرب أهلية لم تبقى ولم تذر، سالت على جوانبها كثير من دماء الأبرياء، ومن ثم اجتياح اسرائيلي هدد أول عاصمة عربية باحتلال طويل، وكانت تلك العاصمة هي بيروت. ويعاد اليوم الصراع من جديد مرة أخرى على المسرح اللبناني، وإن اختلفت الأدوار و الممثلين، ودرجة الصراع، فهو يعود تقريباً إلى نفس القاعدة العامة، أقلية تريد لبنان مُمثل بدولة لها كل مواصفات الدولة، سلطة واحدة، وجيش واحد، وآخرون يتحدثون بحياء وبين السطور باحتمال الوصول إلى حل وسط (لبناني) لتعدد السلطات وازدواجية السلاح. والموضوع المطروح هو سلاح حزب الله هذه المرة بعدما كان سلاح الفلسطينيين! في المرة الأولى لم يستطع الفرقاء اللبنانيون أن يقدموا حلاً معقولاً وأن يتواصلوا في ما بينهم على كلمة تحفظ الوطن، واختلطت الطموحات السياسية باحتقان تاريخي طويل بين الفرقاء المتناكفين، فكانت الحرب، وكان التدخل الإسرائيلي، ثم الدولي ثم العربي وأخيراً السوري. الاختلاف اليوم هو أن حزب الله ليس كالمنظمات الفلسطينية حاملة السلاح، انه حزب له ذراع سياسية، وبالتأكيد لن يرضي الفرقاء اللبنانيين عاجلاًَ أو آجلاً أن يحتفظ فريق سياسي منهم على عكس كل الفرقاء، بقوة ضاربة، بصرف النظر عن المبررات، ويبقى آخر مجرداً من تلك القوة، وليس من العقل أن يتمنى الأخير أو يسعى الى التسلح لأن الزمن اختلف، فالمنطقي إذاً هو نزع السلاح أو التخلي عنه. المعادلة معروفة بصرف النظر عن التكتيكات المختلفة، فاستحقاقات ما بعد الانتخاب اللبناني الحالي هي أولاً موضوع السلاح، وثانياً موضوع المحاصصة، أو ما يسمى في الأدبيات اللبنانية، قانون الانتخاب العادل، والباقي كله تفاصيل. قد يصبح البعض للفت الأنظار بعيداً عن القضايا المركزية بطرح موضوعات جانبية مثل هدر أموال الدولة، ويتسلى البعض الآخر باتهام قوى خارجية بالعبث بأمن لبنان والتدخل في خصوصياته، ويذهب البعض الثالث الى طرح قضية رئيس الجمهورية، إلا أنها جميعاً تنويعات على الاستحقاق الأهم، عدالة في المشاركة، بما فيها قوة الدولة الواحدة المركزية واحتكارها للسلاح، والمواطنة المتساوية، من دون هذا فإن لبنان سيظل جمهوره يصرخ ولا يجد آذاناً صاغية. في الحال المصرية تبدو الأمور متأزمة على عكس ما يظهر على السطح، وتنطبق على ما يجرى في بر مصر القاعدة المعروفة في السياسة، وهي أن الناس تعلو أصواتها في حال الاسترخاء شبه الديموقراطي، حال البينَ بين، وأما في الحالين حال القمع وحال الديموقراطية الشاملة، فإن الأمور تُستتب، فلا صوت يسمع في الحال الأولى ولا حاجة الى صراخ في الحال الثانية. في مصر اليوم ديموقراطية بينَ بين، فيها بعض الهامش الذي يُمكن البعض من الصراخ، ولكنه صراخ لا يسمعه احد، وهنا تكمن المشكلة، اذ ان كتم الأصوات لا يزعج احداً لأنها لا تسمع، أما بينَ بين فهي التي تزعج، لأن لها أنيناً يشبه الحشرجة. وللشعب المصري قاعدة في التعبير وهي النكتة، ويقال أن الرئيس المرحوم عبد الناصر كان يستمع إلى النكت يومياً ليعرف مزاج الجمهور، لكن عندما غنت السيدة المرحومة أم كلثوم أغنيتها الشهير الأطلال، التي قالت فيها «أعطني حريتي أطلق يدي، إنني أعطيت ما استبقيت شيئاً، آه من قيدك أدمى معصمي»، لم يتبين المرحوم ولا أجهزته أنها تقصد السجين الأشهر وقتها، المرحوم مصطفى أمين، عرفنا ذلك من مذاكرات مصطفى أمين لاحقاً، فهناك طُرق للتعبير الاحتجاجي خارجة عن السياق لكنها تدخل التاريخ. في عهد مبارك لا نحتاج الى ضرب الودع أو تتبع النكات حتى نعرف ماذا يدور في بر مصر، فالصحف، خصوصاً صحف المعارضة، والانترنت والتلفزيون الفضائي كلها تنقل لنا ما يحدث، وهي ميزة جديدة غير مسبوقة، إلا أن أنصاف الحلول هي المشكلة. فالبلاد تعاني من جملة احتقانات سياسية واقتصادية، لم يعد يشفيها الترياق القديم، والحلول السابقة والفاشلة، لكن الأمر يعود الى قدرة في السماع والاصغاء و الاستجابة لدى النخبة، وهي ربما لا تزال في طور لا يمكنها من الترجمة الحقيقية لما يدور، اعتماداً على ترجمات قديمة أكل الدهر عليها وشرب. في الجانب الآخر ليس سراً أن الإدارة الأميركية مقتنعة بأن التغيير الايجابي في الشرق الأوسط يمكن أن يُسرع أو يُعوق في المنطقة بسبب ما يحدث في مصر، فإذا حدث تغيير في مصر يتسارع التغيير الايجابي في كل المنطقة. شعار «لقد استمعت إليكم» قاله شيراك أخيراً، لكن قاله قبل ذلك بأسابيع السيد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني بالكلمات نفسها. فالديموقراطية الحديثة هي بالتأكيد ليست صناديق انتخاب وحملات انتخابية، وطبل وزمر، كما يقال في المثل العربي، أنها قدرة على الإصغاء الصحيح، وعلى ابتكار سياسات جديدة لمشكلات مُستجدة، وإلا تحول الموضوع كله إلى أغنية يظنها البعض أنها تغني على الحبيب، كما في حال السيدة أم كلثوم، وهي تغني في الحقيقة على الوطن في الأسر، الذي يصيح آه من قيدك أدمى معصمي!.. وأنت لا تسمع!