فجأة وبلا مقدمات أطل علينا السيد الوزير أحمد أبو الغيط آخر مدير للسياسة الخارجية المصرية قبل ثورة 25 يناير في أكثر من مكان ليقص علينا مذكراته السياسية لفترة هامة من تاريخ مصر ويذرف معها الدموع على ما كان؛ تلك المذكرات التي يقرأها يظن أنها سيرة واعظ أو ملحمة مجاهد. وله الحق فيما رواه وسيرويه ولنا الحق فيما سنكتُبه من واقع ما عايشناه طيلة إدارته لملف السَياسة الخارجية المصرية. فإذا أردنا الإطلال على السيد أبو الغيط والظرف التاريخي الذي جاء فيه نجدها ظروف غاية في السوء وأوضاع خارجية عاصفة وهنا نذَكر إن سَيادته تولى الوزارة بعد غزو الولاياتالمتحدةالأمريكية للعراق وحالة الفزع للأنظمة العربية والتي ارتجفت مفاصِلها حين رأت تهاوي تمثال صدام حسين أمام أعين الملايين في رسَالة واضحة لسَاسة وحكام المنطقة العربية المتهالكة وتذكريهم ليل نهار منّ ليس معنا فهو ضدنا -كما كان يردد جورج بوش الابن- وحثي تكتمل الصورة وتصبح أكثر تحديداَ ووضوحاَ فسيادته جاء خلفاً للمرحوم احمد ماهر الذي ترك الوزارة بعد الحادثة المؤسفة له في باحة المسجد الأقصى حين تعدى عليه بالضرب بعض الفلسطينيين عام 2003 وكانت تلك الحادثة لها مدلولاتها الواضحة التي تعبر عن بركان الكبت المكنون والمكظوم في صدور بعضهم من الدور المصري الباهت من القضية الفلسطينية بل وانحيازها أحيانا تجاه إسرائيل. أضف إلى ذلك ابتعادها عن القضايا الحيوية ومحيطها الإسلامي والإفريقي وزيادة مساحة الانكفاء والانزواء إلى الداخل حتى أصاب أركانها الكثير من الشقوق والتشوهات وظهرت نقاط سوداء متعددة على جدرانها وثوابتها لم تكن تعهده من قبل. في كل هذه الأجواء تولي السيد أبو الغيط الوزارة وحينها استبشرنا خيرًا بالقادم الجديد وانتظرنا أن يبدأ في لملمة المبعثر من السياسة الخارجية ويعيد نسيج العلاقات المتقطعة ويزيل التشوهات ويضع مصر في مكانها الطبيعي كقاطرة سواء علي المستوى العربي والإسلامي ومحيطها الإقليمي والدولي؛ ولكن ما عايشناه وشاهدناه كان خلاف ما توقعناه تمامًا حيث استمر مسلسل الانكفاء نحو الداخل فرأينا السودان يتجزأ دون أن يكون للسياسة المصرية دورًا ملموسًا كقوة كبرى يجب أن تكون حاضرة بل وطرف أساسي على طاولة المفاوضات في حدث تاريخي بمثل هذا الحجم بحكم الجغرافيا والتاريخ؛ ولم يكن الحال أحسن مما عليه في مشكلة جنوب السودان حين ظهرت مشكلة دارفور فاختفى الوجود المصري وكأن الأمر لا يعنيها وتركت الأوراق ليلعب بها من يريد. وكأنها مشكلة تحدث لدولة في أمريكا الوسطي. ولم يتوقف نزيف الانزواء والتقزم إلى هذا الحد بل شاهدنا كيف أحرقنا كل أوراقنا في منطقة حوض النيل ذات البعد الاستراتيجي والحيوي لمصر وأمننا المائي فأصبحت هذه المنطقة لا مكان لها علي خريطة السياسة الخارجية المصرية فتحولت من حليف إلى متربص بل والتقطت إسرائيل الخيط ونسجت أسلاكًا شائكة ومعقدة حول رئة مصر وقلبها ألا وهي منابع نهر النيل. واستمرار لمتزيق ثوب العلاقات الخارجية اضمحلت علاقتنا بمنظمات كنا لها مؤسسين كمنظمة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الوحدة الإفريقية وخفت صوت مصر العالي في تلك المنظمات. وعلى المستوى العربي فلم يكن الوضع أكثر سوء من سابقه فتركنا إسرائيل في صيف 2007 تقصف لبنان وتحول جنوبه إلى أنقاض على رؤوس ساكنيه وكانت الطامة الكبرى حين شاهد العالم مهندس السياسة المصرية كتفًا بكتف مع وزيرة خارجية إسرائيل وهي تتوعد ساكني قطاع غزة بالرصاص المصبوب وفعلت ما تريد ولم تنتفض مصر أو تظهر غضبًا أو ترفع صوتًا يبعد عنها شبه المؤامرة لأغراض في نفس يعقوب وهي إضعاف حماس أو التخلص منها كي ترضي واشنطن وتل أبيب لتمرير مشروع التوريث المنتظر. وبعدها ارتضت مصر لنفسها أن تلعب فقط دور الوسيط غير النزيه للمصالحة الوطنية بين الفلسطينيين والحارس الأمين للمعابر كي تضمن أمن إسرائيل وتزيد معاناة أهل القطاع.