مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط/يبدو أن الأمور فى مالى مرشحة للتصاعد ، وذلك فى ضوء تداعيات النصرة والعداء التى حولت الصراع فى تلك الدولة الإفريقية الفقيرة إلى صراع عقائدى ، ليس من المرجح أن ينتهى على المدى القريب رغم نجاح عملية (القط المتوحش) التى تشنها القوات الفرنسية فى استعادة مدن سيطر عليها مقاتلون يرتبطون بتنظيم القاعدة أهمها مدينة ديابالي الواقعة على بعد 400 كم شمال العاصمة باماكو والتي كانت قد سقطت الاثنين الماضي بأيديهم. ومع تصاعد دعوات النصرة للمقاتلين المحسوبين على الإسلام ، تتصاعد بشكل واضح المساعدات الدولية لفرنسا ، لأسباب عديدة أبرزها حماية مصالح الغرب في منطقة الساحل الأفريقي الغنية بالثروات وكذلك خشية تمدد نفوذ تنظيم القاعدة هناك الأمر الذي يهدد الدول المجاورة لمالي كالجزائر وموريتانيا ومن ثم دولا أوروبية على الضفة الأخرى من المتوسط. وعلى الرغم من أن فرنسا لا تواجه جيشا نظاميا يمكن تحديده والاشتباك معه ، إلا أن المواجهة تبدو أكثر خطورة وأطول أمدا ، وذلك لأن هذه المجموعات المسلحة تمتلك في المقام الأول عقيدة قتالية دينية وهو ما يجعلها أشد حرصا على الصمود والقتال حتى الرمق الأخير فى وجه عدو دينى. وكما أن المقاتل العقائدي أكثر خطورة من غيره ، فإن حرب العصابات التى يمكن أن تواجهها فرنسا تمثل مشكلة كبيرة أمام الجيوش النظامية مهما تعاظمت قوتها وتسليحها ، ناهيك عن امتداد مساحة آراضي مالي التي تشكل الصحراء نسبة كبيرة منها. ومما يزيد الأوضاع تعقيدا تداخل القومي مع الإسلامي فى مالى ، بالإضافة إلى مطالبة الطوارق الذين يسكنون شمال البلاد بحقهم القديم بالاستقلال وكذلك زيادة قوة الجماعات الإسلامية ، وتحولها إلى قوة رهيبة وربما مدمرة تخيف الدول الكبرى ودول الشمال الأفريقي. وفيما صور الإعلام الغربي متمردي الشمال في مالي بوصفهم متطرفين ذوي صلة بالقاعدة ؛ بنشرهم لوقائع تطبيق العقوبات القاسية التي تشمل قطع اليد ، ولكن لا ترجع جذور التمرد إلى الأيديولوجية وإنما إلى التهميش السياسي والاقتصادي للطوارق الذين يشكلون أقلية ؛ حيث يعانون من الجفاف والتهجير القسري من قبل الدولة ناهيك عن تأثير الزراعة التجارية والنقل الآلي ، فقد تم إبعاد الطوارق بشكل كبير عن أسلوب حياتهم البدوي الرعوي. وكان الطوارق قد انتفضوا أربع مرات منذ أن أصبحت مالي دولة مستقلة في عام 1960، ومع نهاية انتفاضة 1996 ساومت الحكومة المالية بالمساعدات الاقتصادية الضرورية لأهل الشمال مقابل السلام مع متمردي الطوارق ، وأصبح الآلاف منهم جزءا من الجيش المالي وتلقوا الرواتب وتم البدء في مشاريع أشغال عامة حيث تم بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية الكهربائية. وقد تعلم المتمردون الطوارق الدرس جيدا ؛ وفهموا أن الحكومة المالية لم تكن لتظهر التنمية الاقتصادية إلا حينما يتم مقايضتها بوضوح بوضع نهاية للنزاعات. وتشير التقارير إلى أن الطوارق والحكومة المالية شكلوا فى البداية تحالفا ضد الإسلاميين ، ولكن في عام 2011 بدل الطوارق ولاءهم وانحازوا للإسلاميين وتشكلت جبهة إسلامية جدية بقيادة إياد اغ غالي ، الذي كان أحد قادة ثورات الطوارق ما بين 1990 و2006. وتجددت آمال الطوارق وهم من الأقلية المتحدثة بلغة "التماشك" الذين ينحدرون من أصول عربية مع اشتعال أحداث الربيع العربى وشنوا هجوما ضد القوات المالية في الربيع الماضي ، وخلال بضعة أشهر انضمت إليهم جماعات جهادية دولية ومرتزقة الطوارق السابقين الذين تدفقوا إلى مالي من ليبيا بعد سقوط معمر القذافي في نوفمبر 2011 ، حيث كان هؤلاء يشكلون جزءا مهما فيما يعرف ب "كتائب القذافى". وشمل التمرد كلا من عناصر الطوارق والإسلاميين المتحدثين بالعربية، وينقسم المتحدثون بلغة "تماشك" بشكل رئيسي إلى الحركة (القومية لتحرير ازواد) العلمانية وجماعة (أنصار الدين) الإسلامية ، وتشمل المجموعة المتحدثة بالعربية حركة (الوحدة والجهاد) في غرب إفريقيا و(القاعدة) في المغرب الإسلامي؛ وهي المجموعة الوحيدة في المنطقة التي تعد في الحقيقة ممثلة لشبكة (القاعدة) الدولية، وحركة الوحدة والجهاد في غرب إفريقيا هي فرع إقليمي للقاعدة في المغرب الإسلامي. وبعد النصر المشترك لجماعة (أنصار الدين) والحركة (الوطنية لتحرير ازواد) على القوات المالية نشبت بينهم خلافات في مايو الماضى ، واستغل إياد اغ غالي الاتفاقات بين حركة الوحدة والجهاد في غرب إفريقيا والقاعدة في المغرب الإسلامي لتنحية القيادة العلمانية لحركة الطوارق جانبا ، وطردت حركة الوحدة والجهاد في غرب إفريقيا الحركة الوطنية لتحرير ازواد من مقراتها في بلدة (جاو) الشرقية الاستراتيجية. وقد أدت سيطرة المتمردين الإسلاميين على مساحات شاسعة من الأراضى شمالى مالى ، إلى قيام النقيب امادو هيا سانوجو بانقلاب في الحادي والعشرين من مارس على رئيس مالي المنتخب امادو توماني تور معلنا أن الأخير أساء التعامل مع الحرب الأهلية. وأدى الانقلاب إلى مزيد من الفوضى وسط جنود مالي مما سمح للمتمردين بهزيمتهم هزيمة ساحقة والاستيلاء على منطقة الصحراء الشمالية الواسعة ، وهو ما دعا الرئيس المالى ديونكوندا تراوري إلى إعلان حالة الطواريء بعد تقدم المتمردين ودعا الفرنسيين للتدخل. وفيما استمر الفرنسيون في شن الهجمات الجوية ، اتجه أعضاء الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إلى التعجيل بنشر القوات في مالي بعد أن فوض مجلس الأمن الدولى في نهاية ديسمبر الماضى الجماعة مع حصولها على مساعدة الغرب ، بمساعدة الجيش المالي في السيطرة على الشمال. وإذا كانت الضربات الجوية التي شنتها الطائرات الفرنسية منذ 11 يناير الجارى ، قد أدت إلى توقف المجموعات المسلحة الإسلامية من الاستمرار على السيطرة على مالي ، إلا أن تلك المجموعات تتميز بقدرتها على استنزاف أعدائها فى حرب عصابات طويلة ، وهو ما يعنى إطالة أمد الصراع وإرتفاع تكلفته ماديا وبشريا. ويرى خبراء عسكريون أن فرنسا لو نجحت في حصر العملية العسكرية "ضد الإرهاب" فقط ، وتحديد مدتها الزمنية سيكون شيئا جيدا ولكن إذا خاضت حرب عصابات ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تتحرك في أرض تمثل أضعاف مساحة فرنسا، سوف تضع فرنسا نفسها في وضع صعب جدا يشبه الوضع الذى واجهته أمريكا فى أفغانستان وهو ما يمكن أن يضع مالى على الدرب الأفغانى. ويدرك المراقب لتطورات موازين القوى فى تلك المنطقة من إفريقيا التى يرزح سكانها تحت نير الفقر بينما تعوم رمالها على بحور من الثروات الطبيعية تسيل لعاب الغرب ، أن قوة (القاعدة) قد انتعشت في المنطقة بعد تدفق الأسلحة التي خلفتها فوضى تدخل الناتو في ليبيا وبعدما استولت (القاعدة) والطوارق العائدون من ليبيا على كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة من مستودعات ألقذافي أو من الإمدادات الأمريكية ، وهو ما يجعل خبراء الدفاع يسمون التدخل الفرنسي في مالي ب"حرب ليبيا الثانية"، لأن الفرنسيين يحصدون نتائج الأخطاء المرتكبة هناك. وتشير التقارير إلى أن المتشددين الإسلاميين في شمال مالي تربطهم روابط وثيقة بجماعة (بوكو حرام) في نيجيريا وهي المجموعة التي فجرت مكاتب الولاياتالمتحدة في أبوجا عام 2011 ، ولها علاقات قوية مع أنصار الشريعة والتي يعتقد بمسئوليتها عن مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة من موظفي القنصلية الأمريكية في ليبيا نهاية العام الماضى. وعلى الرغم من تعدد الخيارات لإعادة الهدوء إلى مالى التي تتعرض للانهيار تحت ضغط تمرد الشمال، إلا أن القوى الغربية إختارت الحرب كطريقة لتوحيد مالي مرة أخرى، وبدأوا نشر قواتهم وتصعيد العمليات القتالية ، وهو ما يضع سكان مالي في الشمال والجنوب على مشارف محنة طويلة ومريعة. وإذا كان مجلس الأمن الدولى قد أيد النهج ذي المسارين في شهر ديسمبر الماضى ؛ فإن الجمع بين المفاوضات وبين التهديد بالحرب والهجوم الفرنسي وتعزيز قوات الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ، يشير إلى بداية حملة عسكرية ممتدة ، ومن المؤكد أن مثل هذه الحملة ستزيد من حدة الانقسامات العرقية والمزيد من تهميش "الطوارق". ويتوقع المراقبون أن تضاعف الحرب من حجم أزمة اللاجئين ؛ استنادا إلى تقارير تؤكد تشريد حوالي 200 ألف من الماليين داخل البلاد بداية ديسمبر الماضى فقط ، و260 ألفا كانوا قد فروا بالفعل إلى الدول المجاورة. إلا أن الأمر الأشد خطورة هو أن القوات البرية الصغيرة من غير المحتمل أن تكون ذات فعالية في مواجهة مقاتلي الصحراء الذين يمكنهم أن ينقسموا إلى فرق عصابات صغيرة، ونتيجة لذلك سيضطر القائمون على الحرب إلى تكرار الوسائل التي تم استخدامها في أفغانستان؛ بما في ذلك الاعتماد على الطائرات بدون طيار الغربية والمروحيات والطائرات الحربية. كما أن النتائج يمكن أن تكون مماثلة لما جرى في أفغانستان؛ من ذبح المدنيين وتعزيز الرغبة الشعبية لطرد الغربيين وعملائهم المحليين الذين يقودون تلك الحملة التى وصفها البعض بالصليبية باسم "الحرب ضد الإسلاميين المتطرفين". ويرى مراقبون أن قيام حرب في مالي يبررها الدفاع عن الوطن ضد الإرهابيين كما حدث في أفغانستان ، قد تعزز من القوى الغربية كلاعبين أساسيين في منطقة مليئة بموارد الطاقة والتعدين الضخمة ، ويبقى الأمر كلعبة اتخاذ مواقع ضد القوى الصاعدة مثل الصين والهند اللتان تحاولان أيضا خلق منطقة نفوذ في إفريقيا ،وذلك خصما من صاحبة النفوذ التاريخى "فرنسا". ومما لا شك فيه أن الحرب في مالي سوف تورط فرنسا فى الوحل الإفريقي ، كما أنها لن تكون نزهة قصيرة للقوات الفرنسية ، فالجماعات الإسلامية لها وضع استراتيجى في البلاد ، فهم سكانها الأصليون ولهم امتداد في كل من الجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا والنيجر ، وهو ما جعل الحرب تمتد إلى جنوبالجزائر بأزمة الرهائن - رغم فشلها باهظ الثمن - التي هاجمت بها الجماعات الإسلامية غربيين وطالبت مفاوضة فرنسا مباشرة لتأخذ عصاها وترحل عن مالى.