بعد أن عرضت قناة دريم فقرة للكاتب والإعلامى خالد منتصر بعنوان "الحيوانات المنقرضة" فى جسم الإنسان, تناول فى مقال لاحق بجريدة "الوطن" ردود فعل المشاهدين على الحلقة (العلمية) التى قدمها, وكان مقاله بعنوان "هل سيصمد داروين أمام أخونة التعليم". وسوف يلاحظ المتابع لكل من الحلقة والمقالة أن القاسم المشترك بينهما, بل وبين جميع ما يتعلق بما يكتبه أو يذيعه خالد منتصر يتميز بسمتين أساسيتين هما: إصرار الكاتب على البحث عن الموضوعات التى تستفز قراءه ومشاهديه, والسمة الثانية هى محاولة صبغ ما يقدمه بمساحيق علمية, وارتدائه مسوح المصلحين الدينيين والعلميين, ومحاولة تقمص شخصيات مثل مارتن لوثر أو كوبرنيكوس وجاليليو، على الرغم من اختلاف السياقات التاريخية وافتقاد الشروط الموضوعية والبيئة لظهور شخصيات مشابهة لهؤلاء, بالإضافة إلى أن ما يحاول أن يقدمه الكاتب باعتبار أن ذلك هو العلم الصحيح والوحيد, هو أمر غير علمى على الإطلاق, ويتنافى مع شروط البحث العلمى الذى يعتبر التواضع العلمى أحد شروطه ونحن نقدم نظرية ما فى أى مجال من مجالات العلوم, هذا التواضع العلمى ليس مطلوبًا فقط فى طريقة الصياغة وأسلوب البحث ومناهجه، بل مطلوب أيضًا فى اللغة التى يقدم بها الباحث بحثه بأن تبتعد عن اليقينCertainty قليلاً, وأن تكون المفردات المستخدمة من عينة "ربما, وقد يكون, ومن المحتمل", وغير ذلك من المصطلحات العملية, لأن الجزم فى العلم لا يعنى إلا شيئاً واحدًا هو التوقف العلمى وإغلاق الباب أمام وجهات النظر العلمية الأخرى! ويكفى أن أدلل على ذلك الاقتباس من مفتتح مقالته فى صحيفة "الوطن": "تجرأت وعرضت فى برنامجى الطبى على قناة دريم فقرة فيديو عن الأعضاء المنقرضة التى فى جسم الإنسان والتى تدعم نظرية داروين، وما إن تمت إذاعة الفقرة حتى وصلتنى على تويتر والإيميل رسائل تكفير تتهمنى بدعم نظرية الزنديق داروين".. فعبارة مثل الأعضاء المنقرضة التى فى جسم الإنسان, هى عبارة ليست علمية على الإطلاق, ليس من وجهة النظر الدينية التى تزعج خالد منتصر كثيرًا, ولكن من وجهة نظر العلم الذى يحاول منتصر أن يكون المتحدث الرسمى باسمه, لأنه لم يتواضع علميًا ويقل الأعضاء المحتمل أن تكون انقرضت من جسم الإنسان أو التى ربما كانت فى جسم الإنسان, وما شابه ذلك, وفى حوار تليفونى مع خالد منتصر حول حلقته وحول مقاله أيضًا, قلت له إن ما قدمته فى برنامجك وفى مقالك ليس علمًا، بل هو وجهة نظر أمامها الكثير من العقبات وبعضها تحول إلى حفريات علمية, ومن حقك أن تنحاز إلى خيارك دون أن توهم الناس أن ذلك هو العلم, وما عداه هو الجهل, ففوجئت بخالد منتصر يحيلنى إلى شيئين مدهشين، أولهما أنه يستند فى طرحه إلى عالم البيولوجى ريتشارد دوكنز وهو من أكبر الملحدين حاليًا وله كتابات لا تتحدث عن العلم فقط, بل وتهاجم المؤمنين أيضًا, وبخاصة كتابه الصادر عام 2006 بعنوانthe God Delusion أو وهم الإله, ومرة ثانية أكرر أن خالد منتصر من حقه أن ينحاز إلى خياراته الذاتية Subjective لكن دون أن يحاول أن يقنعنا أن ذلك هو الموضوعىObjective , والأمر الثانى الذى أدهشنى فى حواره التليفونى هو أنه يفعل ذلك لكى يوقظ هؤلاء الجهلاء والمتغطرسين باسم الدين والذين يقفون عقبة فى طريق التقدم والنهضة بإصرارهم على الترويج لخرافات علمية وإقحامهم للدين فى كل شيء، وعلى الرغم من اتفاقى الضمنى معه فى جزء مما قاله فى أن هناك كثيرا من المتدينين يقفون عقبة أمام التطور, لكن ليس باسم الدين, ولكن باسم تفسيراتهم الدينية وانحيازاتهم المذهبية, وأن بعض أخطاء هؤلاء لا يمكن أن تكون مبررا لاتخاذ موقف سلبى ضد الدين بوجه عام أو الترويج لنظريات علمية يتبناها قطاع من الملحدين بدافع أيديولوجى لا علمى! إن كثيرا من العلماء فى مجالات العلوم المختلفة ينطلقون من خلفيات أيديولوجية متباينة لا تؤثر فقط فى الموقف السياسى, ولكن أيضا فى الموقف العلمى, وهذا أمر معروف، لكنه ليس مجالاً المناقشة الآن. لكن ما دام خالد منتصر قد أحالنى إلى ريتشارد دوكنز، فأنا أيضا أحيله إلى من هو أكثر قيمة من دوكنز وهو العالم البريطانى الكبير ويلسون, وقد دار بينهما جدل كبير منذ عدة أشهر نتيجة هذا الاختلاف الأيديولوجى, وخلطه بالنظريات العلمية, فويلسون ينحاز إلى معسكر المتدينين, بينما ينحاز دوكنز إلى معسكر الملاحدة, وقد لجأ الاثنان مؤخرا إلى طريقة غير علمية على الإطلاق فى تأكيد مذهبيهما العلميين وهى طريقة المغالبة, إذ أخذ كل واحد منهما يضع قائمة بأسماء العلماء المشهورين المنتمين إلى فريق المتدينين وفريق الملاحدة, حتى وصف الحوار من قبل علماء آخرين بأنه حوار واحدة بواحدة Tit for Tat , فهل يريد منا خالد منتصر أن ننزلق إلى هذا التقسيم العلمى بعد كل هذه الانقسامات السياسية! العجيب فى الأمر أن منتصر حينما تحدث عن نظرية التطور, لم يوضح لنا عن أى تطور يتحدث، ولا عن أى نظرية, فنظرية التطور ليست نظرية واحدة, بل إن بعض العلماء وصفها بأنه خمس نظريات متداخلة, فعن أى تطور يتحدث خالد منتصر؟ عن الأصل الواحد Common Descent الذى تفرعت منه كل السلالات الحية على وجه الأرض؟ أم عن الانتخاب الطبيعى Natural Selection ؟ أم البقاء للأصلحSurvival for the fittest ؟ وأخيرًا، نريد من خالد منتصر أن يوضح لنا كيفية التوفيق بين نظرية الأصل الواحد والمعتقد الدينى, لأننا بالفعل فى حاجة لأن نتعلم منه, فهل يقبل ويتواضع ويقبل بأن يعلمنا منهج التوافق هذا؟