ربما كان من أكثر الممارسات مرارة وخطورة على صعيد الفكر السياسي والممارسة السياسية في النظام السياسي العربي الراهن الإصرارُ، بلا هوادة، على الاستفراد بالسلطة السياسية. وتظهر مرارة ذلك وخطورته، بكيفية خاصة، في المرحلة الراهنة، حيث أصبح كل شيء في لحظاته الحاسمة. وثمة أمر ملفت يبرز ها هنا ويزيد المسألة صعوبة وخطورة وإشكالية، وهو تفاقم الوضع العربي العمومي، وربما كذلك دخوله في عنق الزجاجة، وذلك حيث تتعاظم الضغوط والإملاءات المفتوحة عليه من قبل الولاياتالمتحدة الأميركية، يداً بيد مع الضغوط الداخلية المتحدرة من مشكلات معلّقة ومتصاعدة على الصعد الاقتصادية والقضائية والسياسية والمالية وغيرها. ومن طرف آخر، يلاحظ المدقق حرص النظام السياسي العربي -في معظم تجلياته- على الاستمرار في ممارسة لعبة القط والفأر مع الخارج الأميركي خصوصاً. وهو في هذا، يراهن على تقديم "المطلوب منه" من الأميركيين، دونما حاجة إلى التنازل أمام شعوبه العربية. لقد اختار النظام المذكور معادلة ناقصة مبتورة، أي ذات بعد واحد، إذ اعتقد أن شعوبه لا تمثل طرفاً فيها، وأنها - من ثم- إنما هي أمر يخصه هو وحده في علاقته مع الأغيار. وهو، بهذا، يدلل على أنه لا يرغب الحصول على شرعيته من شعوبه، مع أن هذه الأخيرة، في مطالبها وفي تحقيقها، لا تتوانى في الدفاع عن الوطن، بما فيه النظام السياسي نفسه خصوصاً في حال إنجازه تلك المطالب في حدودها الأولية، نعني الكفاية المادية والحرية والكرامة. فما يغيب عن ذلك النظام - في جلّ تجلياته- أن الاحتماء بشعوبه عبر مؤسسات شرعية فاعلة إنما هو "بيضة القبّان" في تحديد صراعاته مع الخارج. ولعله لم يتمكن من قراءة مجموعة الأحداث، التي دللت على أن الولاياتالمتحدة، تحديداً، تجد نفسها عاجزة عن فعل أي شيء، حين ترفض المؤسسات الديمقراطية في بلد معين ما تطلبه منه، كما كان الحال في تركيا التي طُلب منها تقديم تسهيلات للجيوش الأميركية المهاجمة للعراق. فلقد احتكمت الحكومة التركية إلى مؤسساتها الدستورية في ذلك، وبنت رفضها للطلب الأميركي العسكري على الرفض البرلماني التركي. في ضوء ما تقدم يمكن القول إن النظام السياسي العربي الراهن يجد نفسه أمام خيار قد يكون قاطعاً، وهو إما أن يعيد ترتيب بيته على نحوٍ إصلاحي مناسب وفي كل الحقول، وإن في ضوء الأولويات، وإما أن يجري قضمه قطعة قطعة من الغزاة الطامعين. وربما كان التأسيس ل"عقد اجتماعي" بينه وبين شعوبه في موقع الأولوية الحاسمة راهناً. وثمة ملاحظة ذات طابع أخلاقي خصوصي غالباً لا تثير اهتماماً لدى الباحثين المحللين إلا على نحوٍ ضئيل، خصوصاً لدى من يشيّد منهم على مبدأ أن "المصالح تضبط العقائد". هذه الملاحظة تقوم على القول إنه في حالات تاريخية حاسمة بالاعتبار الخلاصي ومن موقع الخوف من حدوث كوارث تدميرية، يمكن أن يفصح عن نفسه قدر أو آخر من "الحكمة البشرية" يجري توظيفه في خدمة الحيلولة دون ما قد يحدث من مثل تلك الكوارث، التي تأتي على "الصالح والطالح". ها هنا، يصح الإتيان على مثل راهن على ما نحن بصدده، ويتمثل ذلك بالمؤتمر الذي عقده حزب البعث العربي الاشتراكي في دمشق. فقبل انعقاده، قيل الكثير عن ضرورة فصل الحزب عن الدولة، لأن غياب ذلك أسهم إسهاماً كبيراً في إنتاج خلل بنيوي في كلا الحقلين المذكورين، وذلك لصالح فسادٍ في الإدارة والاقتصاد والمالية والسياسة والقضاء وغيره. وأتت نتائج المؤتمر مخيبة للآمال على صعيد ما نحن بصدده، ففي مؤتمر صحفي، قالت المتحدثة باسم المؤتمر: لقد ارتأى هذا الأخير أن يكون رئيس مجلس الشعب ورئيس الوزراء عضوين في حزب البعث. وعللت ذلك بأن ذلك "ليس ميزة، وإنما هو مسؤولية" تُلقى على عاتقيهما. لقد جاء ذلك مخيباً للآمال، بقدر ما جاء تعبيراً عن إيديولوجيا إقصائية شغلت الحيّز الأعظم في الحياة السياسية السورية لعدة عقود. ذلك لأن الحفاظ على تينك المرجعيتين الإثنتين ضمن حقوق حزب واحد في مجتمع سوري يتدفق بالحيوية، على الأقل ضمناً، إنما يُفضي إلى ضمور هذا المجتمع، وينتهي به - وفق ما قدمه ابن خلدون وعلوم اجتماعية وإنشائية معاصرة- إلى الهُزال، ومن ثم إلى التهشُّم أمام الغزاة العولميين المعاصرين. إن المشاركة في السلطة السياسية من قِبل القوى المجتمعية الحية في سوريا وفي كل البلدان العربية هي حقاً، كما قالت الناطقة، مسؤولية "سياسية وطنية وأخلاقية"، قبل أن تكون "ميزة" تستجرّ المصالح والامتيازات. بيد أن سؤالاً كبيراً يُفصح هنا عن نفسه ويتعلق بمصائر المجتمع المعني كلها، وذلك هو: هل مفهوم "المسؤولية الوطنية"، كما تضبطه العلوم السياسية خصوصاً ناهيك عن مفهوم الاستحقاق الوطني الأخلاقي، هو أمر يتصل بحزب دون آخر، بل: هل هذا أمر من اختصاص الأحزاب وحدها، دون المواطنين الآخرين، الذين يمتلكون الحقوق في أن يكونوا ما يُناط بهم من قِبل ما يُعتقد ضمناً أنه موجود أو يجب أن يكون موجوداً، وهو "عقد اجتماعي" يلتقي عليه الجميع حقوقاً وواجبات، ناهيك عن الأمر إذا كان متعلقاً بحزب واحد بعينه وبصيغة قاطعة؟ إن إصلاحاً سياسياً حقيقياً، يقوم ضمن ما يقوم على مشاركة فعلية في شؤون السلطة من قِبل الجميع، بقدر ما يتيح الأمر ذلك. ومن ثم، لم يعد مسوَّغاً لا سياسياً ولا أخلاقياً أن يُستأثر بمهمات خدمة الوطن والعمل في سبيله، خصوصاً في مرحلة كالتي يمر بها العالم العربي وسوريا من ضمنه على نحو الخصوص. من هنا، الأهمية الخاصة والقصوى أن يجري الانطلاق من وعي وطني فعلي يؤسس لمشاركة جماعية حقة. ----- صحيفة الاتحاد الاماراتية في 21 -6 -2005