سادت الحياة السياسية فى مصر، طوال السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، حالة من الاستقطاب جعلت الحزب الحاكم يقف فى طرف وجماعة الإخوان تقف فى الطرف الآخر، وبينهما فراغ سياسى كبير. ولم تكن حالة الاستقطاب هذه قدرا محتوما بقدر ما كانت ثمرة طبيعية لسياسة تبناها النظام الحاكم واستهدفت إضعاف الحياة الحزبية، بالإصرار على محاصرة كل نشاط سياسى فاعل، وإثارة الفرقة والانقسامات داخل جميع الأحزاب والقوى السياسية، بما فى ذلك الأحزاب الرسمية، اعتمادا على إمكانات الدولة وباللجوء إلى جميع الوسائل، المشروعة منها وغير المشروعة. ولأن جماعة الإخوان، المحظورة قانوناً، نالها القسط الأوفر من صنوف القمع والملاحقة، فى الوقت الذى أظهرت فيه قدرة كبيرة على الصمود والاحتمال، فقد كان من الطبيعى أن تصبح هى المستفيد الأكبر فى الوقت نفسه من حالة الحصار المدعوم بقوانين الطوارئ، بدليل أنها استطاعت أن تحصل منفردة على 88 مقعدا فى انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، بينما لم تحصل بقية الأحزاب والقوى السياسية الأخرى مجتمعة إلا على 11 مقعدا فقط، وهى نتيجة بدا واضحا أنها لا يمكن أن تعكس الصورة الحقيقية لخريطة وأوزان القوى السياسية والفكرية فى مصر. وبينما يرى البعض أن هذا الاستقطاب كان مخططا له وسعى إليه الحزب الحاكم عامدا متعمدا، يرى البعض الآخر أنه جاء كثمرة طبيعية لعشوائية اتسمت بها إدارة الحياة الحزبية والسياسية فى مصر، ولسياق محلى ودولى مختلف جرت فيه انتخابات 2005. وأيا كان الأمر، فمن الواضح تماما أن النظام الحاكم سعى لاستثمار ما أفرزته تلك الانتخابات من نتائج، بصرف النظر عن أسبابها، ورأى فيها فرصة ذهبية تسمح له باستخدام الإخوان كفزاعة يخيف بها قوى داخلية وخارجية تخشى من احتمال قيام دولة دينية فى مصر، والقبول بهيمنته المنفردة باعتباره الخيار الأقل سوءًا!. لذا تعين مرور وقت طويل قبل أن تكتشف قوى سياسية عديدة فى الداخل، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين نفسها، وكذلك قوى دولية إقليمية وعالمية، بما فيها الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، خطورة هذا النوع من الاستقطاب على مصالحها الاستراتيجية على المدى البعيد، خصوصا أنه بدا أقرب ما يكون إلى استقطاب بين الدين، ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين من ناحية، وبين الدولة، ممثلة فى الحزب الحاكم، من ناحية أخرى. فعلى الصعيد الداخلى، بدأت جماعة الإخوان المسلمين تدرك تدريجيا أن هذا النوع من الاستقطاب قد يحقق لها مكاسب على المدى القصير، من خلال تثبيت صورتها كقوة سياسية كبيرة باستطاعتها تحدى النظام، لكنه قد يلحق بها ضررا بليغا على المدى البعيد، لأنه يتيح لأجهزة الأمن، من ناحية، فرصة أفضل لعزلها عن بقية القوى السياسية، تمهيدا «للاستفراد» بها وتكثيف حملات القمع ضدها بعد إظهارها جماعة خارجة على القانون تسعى للاستيلاء على السلطة بطريقة غير شرعية، كما يتيح للحزب الحاكم، من ناحية أخرى، فرصة أكبر لإحكام قبضته المنفردة على مقاليد السلطة، بدعوى أنه القوة الوحيدة القادرة على قطع الطريق أمام جماعة تخلط السياسة بالدين وتسعى لإقامة دولة دينية لا يرغب فيها أحد سواها!. وعلى الصعيد الخارجى بدأت دول مؤثرة فى النظام الدولى، على رأسها الولاياتالمتحدة، تنتبه إلى أن استقطابا من هذا النوع يخلق نوعا من الفراغ السياسى القابل للدوام، والذى قد تترتب عليه عواقب وخيمة فى نهاية المطاف، خصوصا أن قدرة الحزب الحاكم على إحكام سيطرته على مقاليد الأمور تتآكل بسرعة لأسباب عديدة منها تدهور مستوى كفاءته فى إدارة الدولة، وتفشى الفساد بين صفوف قياداته، وتزايد الصعوبات أمام «مشروع التوريث»، وتدهور صحة الرئيس الأب... إلخ. هكذا راحت تتهيأ تدريجيا عوامل وظروف موضوعية تدفع فى اتجاه البحث عن وسيلة لتجاوز حالة الاستقطاب هذه. فرغبة جماعة الإخوان فى البحث عن وسيلة لتخفيف حدة الضربات الموجعة المركزة فى اتجاهها دفعها لمحاولة الاحتماء بالقوى الوطنية الأخرى، أو بشرائح منها على الأقل، والإدراك المتزايد من جانب معظم فصائل الحركة الوطنية بأن صناعة التغيير تحتاج إلى وحدة كل القوى المطالبة به، دفعها للبحث عن أرضية مشتركة بين بعضها البعض وبينها وبين الجماعة. وفى سياق البحث عن هذه الأرضية المشتركة، كان من الطبيعى أن تتبلور تدريجيا معالم حالة استقطابية من نوع جديد، طرفاها: حزب حاكم يسعى لتثبيت هيمنته المنفردة واحتكاره الدائم للسلطة والثروة، من ناحية، وحركة وطنية جماهيرية تطالب بالتغيير وتسعى لإحداث تحول ديمقراطى حقيقى، من ناحية أخرى. ورغم وجود مؤشرات عديدة على بداية هذا التبلور، إلا أن البعض مازال يشكك فى إمكانية وجود حالة استقطابية من هذا النوع أصلا، وفى قابليتها للحياة إن وجدت، مستدلا بذلك على فشل وانهيار كل محاولات التكتل السابقة فى مواجهة الحزب الحاكم. وفى تقديرى أن وجهة النظر هذه، التى تروج لها جميع القوى المناهضة للتغيير، وعلى رأسها الحزب الحاكم، تعكس من الأمنيات أكثر مما تعبر عن قراءة موضوعية للواقع السياسى الراهن فى مصر أو عن تحليل علمى لمستجدات طرأت مؤخرا على مسرح الحياة السياسية المصرية. فالنظام الحاكم، الذى بدأت تظهر عليه علامات ترهل وشيخوخة يصعب إخفاؤهما، لم يكن أكثر ضعفا وارتباكا مما هو عليه الآن، رغم كل ما يتسم به من عناد ظاهر. وقوى المعارضة، التى اكتسبت فى الآونة الأخيرة عناصر قوة جديدة، من بينها نزول البرادعى ساحة العمل السياسى المباشر، لم تكن أكثر تماسكا أو تفاؤلا بالمستقبل مما هى عليه الآن. ومع ذلك يتعين الحذر من كل تهوين من قدرة النظام الحاكم على مقاومة التغيير الحتمى، وأيضا من أى تهويل فى قدرة المعارضة على إحداث التغيير الذى تطمح إليه. فمازال لدى النظام الحاكم أجهزة أمنية شديدة البأس، تملك من وسائل القمع ما يجعلها واثقة من قدرتها على السيطرة على الأوضاع فى جميع الظروف، رغم قلة حيلتها وضعفها على الصعيد السياسى. أما قوى المعارضة فلاتزال فى حاجة إلى جهد ضخم للتغلب على مظاهر الشخصنة وعدم الثقة المتبادلة اللذين اتسم بهما أسلوب العمل بين فصائلها المختلفة طوال المرحلة السابقة إلى حد تخوين بعضها البعض. ولأن وحدة وتماسك قوى المعارضة يتعين أن يكون شاغلنا الرئيسى فى هذه المرحلة، نرى أن من واجبنا التنبيه إلى مسؤولية خاصة تقع على عاتق جميع الأطراف، خاصة الدكتور البرادعى، وجماعة الإخوان المسلمين، وأحزاب الائتلاف الثلاثة التى لم تستطع أن تعثر بعد على صيغة للالتحام بالحركة الوطنية المطالبة بالتغيير الجذرى. فالدكتور البرادعى، الذى أصبح أحد أهم رموز حركة التغيير، تقع على عاتقه مسؤولية ثلاثية الأبعاد تفرض عليه: الانفتاح على كل القوى المتواجدة على الساحة، دون تمييز، وتكثيف زياراته إلى مختلف المحافظات كداعية للتغيير ووحدة القوى الوطنية، والتقليل قدر الإمكان من سفرياته إلى الخارج لأن الوقت يداهم الجميع. وجماعة الإخوان المسلمين مطالبة بتغيير أساليبها التقليدية فى التعامل مع قوى المعارضة، والانخراط الكامل فى عمل جماعى ميدانى مباشر لبناء شرعية جماهيرية حول الحد الأدنى من مطالب التغيير المتفق عليها. وقادة الوفد والتجمع والعربى الناصرى مطالبون، من منطلق ضرورة إدراك خطورة لحظة راهنة تفرض رصّ الصفوف وتوحيد الجهود الرامية لإحداث تحول ديمقراطى، بأن ينأوا بأنفسهم بعيدا عن مواطن الشبهات. ولأن ساعة الفرز حانت، فمن المؤكد أن قيامهم بإبرام صفقات مشبوهة مع النظام سيؤلب عليهم قواعدهم الشعبية وسيفقدهم كل ما تبقى من رصيدهم الجماهيرى. نعم.. أظن ساعة الفرز قد حانت الآن، أو باتت قاب قوسين أو أدنى. فبعد تمديد حالة الطوارئ، والتزوير الفاضح والمباشر فى انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى، لم يعد الوقوف فى المنطقة الرمادية أمرا ممكنا. فإما أن نعمل معا من أجل إحداث التغيير السلمى، وإما أن نتحمل معا مسؤولية فشل سيُدخل مصر، إن حدث لا قدر الله، فى مرحلة جديدة من الاستبداد والفساد ربما تطول لأكثر من 30 عاما أخرى. وأظن أنه لا مفر الآن من أن يقوم الشعب المصرى، وفورا، بعملية فرز دقيقة بعد أن تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر!. ولأن مصر لم تكن بحاجة إلى كل سواعد أبنائها المخلصين مثلما هى الآن، فعلينا أن نتوجه بالتحية إلى كل يد تسعى لوحدة قوى الشعب فى مواجهة جلاديه. ■ ■ الرواية المنسوبة إلى نيابة سيدى جابر بالإسكندرية حول ملابسات مقتل الشاب خالد سعيد تثير السخرية، وتدعو إلى الازدراء، وتدحضها صور منشورة تؤكد وقوع اعتداء بشع. لذا، سيظل دم هذا الشاب معلقا فى رقبة كل من رئيس الدولة، بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للهيئات الشرطية، ووزير الداخلية، بصفته المسؤول التنفيذى عن الجهة المتهمة بارتكاب الجريمة، إلى أن يتم تحقيق مستقل فى ملابسات الوفاة. وفى حال ثبوت التهمة على أفراد ينتمون للشرطة يتعين إقالة وزير الداخلية على الفور وتقديم المتهمين لمحاكمة عادلة، وإلا تعمق الإحساس بأن مصر تحولت إلى غابة، وأن القصاص المباشر أصبح هو الحل. وهذا هو بالضبط بداية الطريق السريع نحو كارثة نسأل الله أن يقى مصر من شرورها.