تأملت تاريخ الثورات فى مصر الحديثة، وتعجبت، فالمصرى الذى علم الدنيا الحضارة، لم يهنأ يوما بعيش، ولم يكن بيده الأمر، إلا أنه تعلم أن يتعايش باعتبار أن الحياة مرحلة، هكذا وقر فى عقله وباطنه، فالفلاح تعايش دوما مع ظلم الدولة، وظلم "البلهارسيا"، فالحاكم، أيا كان، سرق قوت يومه، و"البلهارسيا" سرقت صحته، ومع ذلك كان سعيدًا ومرحًا، حتى فى أحلك الظروف، هكذا عاش، ليجد المعادل الموضوعى فى الحياة، يدخل المسجد داعيا الله أن يكون الغد أفضل، ولا يأتى الغد أبدا، ولا يأتى الأفضل.. إلا أنه لم يكن عبيطا ولا أهبلا.. فعقب ثورة المصريين فى العام 1805 على الوالى المملوكى خورشيد باشا، بحثوا عمن يحكمهم، وبدلا من حكم أنفسهم بأنفسهم، جاءوا بمحمد على الضابط الألبانى، الذى وعدهم بالسمن والعسل وضحك عليهم فيما بعد، صحيح أنه راعى النهضة فى مصر، إلا أنه سام المصريين الظلم، ونهب ثرواتهم، وورث حكمه لأبنائه، وفى ثورة 1952، ضحك العسكر أيضا على البسطاء من الشعب، فكانت كارثة نعانى منها حتى اللحظة، ثم جاءت ثورة 2011 والتى نعيش تداعياتها، وظن الناس خيرًا، ولكن حياتهم انقلبت. وكل هذا لا يشغل بال المصرى، فالمصرى عاش أياما أكل فيها الجيف، وشرب فيها الماء كدرا، هكذا خلق الله المصريين من طينة مختلفة، معجونة بالصبر والتحمل، فلم تنصف الثورات يوما هؤلاء البسطاء، ولكنها كانت مرحلة، لها رجالها، والمنتفعون بها، ثم تمضى الحياة بحلوها ومرها، وتأتى أحداث أخرى تنسى الناس الأحداث الأولى. لا يجب أن نجزع مما يحدث، لأن هذا البلد محفوظ من الله، لقد مر العالم من هنا، وذهب العالم وبقيت مصر، الناس كانت تنتظر من الثورة العدل والمساواة والإنصاف، هكذا كانت شعاراتها، ولكن يبدو أن هذه طبيعة مصر، لا عدل ولا إنصاف، منذ عهد الفراعين وحتى يقبض الله الأرواح، بل إن الشارع المصرى هو الوحيد فى العالم الذى تجد فيه كل أنواع التمايز، فمن نظرة واحدة، تستطيع أن تعرف من هو الطبيب، والضابط، والقاضى، والغنى، والفقير، ومن هى العفيفة، و"المومس". هذه هى طبيعة مصر والمصريين، لن يغيرها فصيل ولا جماعة ولا قطيع، مصر الوسطية، التى لا تعرف التشدد ولا التعصب، تجد المسجد بجوار "البار"، شىء طبيعى، "وهديناه النجدين"، يجب ألا نجزع مما نرى ونشاهد، فمصر الوطن أكبر من كل هذا، ومصر الإنسان، ستبقى، حتى بعد 60 عامًا من الاستذلال، وكان الاحتلال الوطنى، أقسى وأشد على الناس من الاحتلال الأجنبى، فقد قابلت يوما عسكريا برتبة لواء مصابا بداء السكرى، وصدف أن حضر إحدى خطب الرئيس المخلوع مبارك، ثم أراد الخروج لقضاء حاجته، فمنعه الحرس الجمهورى من الحركة، فتبول فى سرواله، أرأيتم إلى أى مدى كان الخوف، ومع ذلك لم يمنع كل هذا من ثورة هذا الشعب النبيل على الظلم والاستبداد. أقول لأهلى، وكل البسطاء من أهل المحروسة الذين يرغبون فى غد أفضل، وينتظرونه بلا نوم.. فرجه قريب. [email protected]