لم تزد أعداد المشاركين فى بعض المظاهرات الأخيرة التى شهدتها شوارع القاهرة عن بضع مئات وأحيانا بضع عشرات.. إلا أن مجرد نزولها فى ظل قانون الطوارئ، والتغير النسبى الذى بات يسم سلوك الشرطة مع هذه المظاهرات، يعطى للظاهرة أبعادا رمزية ومعنوية لا تقل أهمية عن أبعادها السياسية. ما يريد أن يقوله المتظاهرون من حركة كفاية والمناصرون لها من الأحزاب والتيارات السياسية الأخري، والمستقلين وجماعات المجتمع المدنى هو ببساطة أن الخوف يجب أن يزول، وأن النزول فى الشارع هو حق للتعبير عما يجيش فى النفوس، ووسيلة لتوصيل آراء الناس فيمن يحكمونهم، وبالتالي، فهو حق دستورى لا يجوز خنقه أو تعليبه أو إنكاره، أو الرد عليه بأساليب همجية كتلك التى حدثت يوم 25 مايو الماضى فى مواجهة مظاهرة محدودة، حاولت الاعتراض على مضمون المادة الدستورية المعدلة محل الاستفتاء. لقد تعددت المظاهرات طوال الأشهر الستة الماضية، ليس فقط من حيث الجهات الداعية والمشاركة فيها، ولكن أيضا من جهة اختلاف الأماكن التى ذهب إليها المتظاهرون فى أنحاء عدة من العاصمة، ومدن كبرى فى أقاليم شمال البلاد وجنوبها، وكأن المشرفين عليها يريدون أن يوصلوا رسالتهم إلى أكبر مساحة جغرافية وسكانية ممكنة، فلعل ذلك يقنع البعض بالمشاركة والتخلى عن حال السلبية السياسية التى تسود حركة المواطنين العاديين فى مصر، رغم وجود أسباب لا حصر لها تدفعهم إلى الغضب والرفض والشكوي. ومن متابعة هذه المظاهرات فى الأشهر الستة الماضية، يمكن القول أن الهدف الأصلى الذى يكمُن فى جذب الناس العادية للدخول إلى معمعة التظاهر السلمى لم يتغيّر، لكن حجم النجاح لم يصل إلى المستويات المُرضية بعد. فأعداد المشاركين العاديين من غير الناشطين سياسيا يظل محدودا، وربما كان لعامل الامتحانات الذى يفرض على الطلاب البقاء فى منازلهم، وهم الشريحة الأكبر من الشباب المؤهلة للمشاركة فى هذه المظاهرات. ولعل الأمر يتغير بعد انتهاء الامتحانات التى أوشكت على الانتهاء. ولكن المهم لفت الانتباه إلى أن النزول إلى الشارع للتعبير عن مطالب سياسية معيّنة هو جزء مُحاصر فى الثقافة السياسية السائدة فى مصر شأنها شأن البلاد العربية جميعا، بل أكثر من ذلك، فالداعون والمشاركون فى مثل هذه المظاهرات ذات الطابع السياسى معرّضون للاعتقال و"البهدلة" بكل المعاني. ولذلك، فإن حرص عدد من الناشطين على متابعة هذه المغامرة السياسية لعدة أشهر متتالية، يعنى أن هؤلاء قد قرروا المضى قُدما فى عملية هزّ المعايير السائدة أيا كان الثمن، وتلك بدورها جرأة محمودة برأى كثيرين، خاصة وأن عملية جذب الناس إلى العمل السياسى بأشكاله المختلفة تتعرّض لعوائق عدة، فما بالك بالمشاركة فى مظاهرات قد يحدث فيها "ما لا يحمد عقباه"؟ والبارز فى ظاهرة المظاهرات المصرية، أن سلوك مؤسسة الشرطة تعرّض لنوع من الارتباك والتبديل والتعديل فى مواجهة هذه المظاهرات، حيث اتخذ ثلاثة أشكال رئيسية، منها المواجهة الصارمة لغرض فض المظاهرة، وتلك كانت مرحلة امتدت للأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، ثم تحوّلت إلى حال التغاضى عن التحرشات التى يقوم بها موالون للحزب الحاكم، ولكنها لم تستمر طويلا، وكان أبرزها ما جرى يوم 25 مايو الماضي. وأخيرا، التعامل السلمى تحت شعار سياسة ضبط النفس، وفيها تكون المواجهة ودية مع المتظاهرين، أى بأقل قدر من الضغط المباشر، وكثير من الحصار الأمنى الذى يجعل المتظاهرين يتحرّكون فى مساحة محدودة جدا، ثم بعدها يعودون على أدراجهم، وهى السياسة التى لا يوجد أى ضمان لاستمرارها مستقبلا، ولا يوجد أيضا ما يحول دون التراجع مرة أخرى إلى سياسة المواجهة الصارمة. أما تفسير التحول من الصرامة إلى ضبط النفس، فله أسبابه الكثيرة، لكن البعد الخارجى يستقطب الاهتمام، لاسيما رد الفعل الأمريكى الذى وصل إلى ذِروته بعد أحداث يوم الاستفتاء، وما جرى فيه من تجاوزات شديدة تحت سمع وبصر الشرطة، الأمر الذى نال استهجانا أمريكيا شبه رسميا، إلى جانب ما قام به الإعلام الأمريكى والأوروبى بأنواعه المرئية والمكتوبة والإفتراضية فى إدانة ما جري، لوحظ بعدها تغير أسلوب تعامل الشرطة مع المظاهرات التالية. والصحيح هنا أن القائمين على هذه المظاهرات لا علاقة لهم بالولايات المتحدة، ولا يرون أن تغير أسلوب الشرطة إلى حال ودى أو بقائه على حاله الصارم سوف يؤثر فى تمسّكهم بهذا الحق، أى حق التظاهر السلمى ورفع الشعارات السياسية المناهضة للحكم. لكن المحلل المنصف لا يمكنه أن ينفى دور الضغط السياسى الخارجى الذى بات عنصرا أساسيا فى عملية "الإصلاح" التى تجرى هنا وهناك. وللتذكرة فقط، فقد أشارت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس فى محاضرتها عن الديمقراطية فى القاهرة، أن واشنطن، وإن كانت لا تفرض على مصر أو غيرها من الدول العربية أسلوبا معينا للتحول الديمقراطي، لكنها أى واشنطن تراقب كما العالم يراقب ما يجرى فى مصر، ويحدد موقفه بناء على هذه المراقبة. والمعنى المقصود ليس بخاف على أحد، وسواء قبلناه أم رفضناه، فإن ما يجرى فى مصر مرصود سلبا وإيجابا، والأفضل بالطبع أن يكون إيجابا من ناحية إتاحة فرصة التعبير الحر للناس بعيدا عن المضايقات والاعتقالات والتحرشات المهينة، فطالما أن الأمر يجرى سلميا ولا يخرج عن تحديد موقف سياسى أيا كان تطرفه، فمن المفترض أنه مُصان ديمقراطيا ودستوريا. لقد تنوعت المظاهرات فى الأشهر الستة الماضية، ومن أبرز سماتها ما تحمله دائما من شعارات سياسية زاعقة فى رفضها للنظام الحاكم ولرموزه الكبيرة، وذلك بالرغم من تعدد الجهات التى دعت لها. فإلى جانب حركة كفاية، هناك منظمات مدنية، منها المدافعة عن حقوق الإنسان ومنها النسوية، تعبر عن تضامنها مع الصحفيات التى تعرّضن للتحرش والإهانة ولم يحدث أى تحقيق مع المتهمين بهذا الجرم، ومنها ما له صلة بنقابات مهنية. لكن هذا التعدد يذوب تماما فى الشارع، فالجميع له موقف مناهض من الحكم ومن كثير من ممارساته، وربما يجد البعض فى عدد من المظاهرات نوعا من التندر أو مجالا للسخرية، مثل تلك التى ذهبت إلى مسجد السيدة زينب من أجل قراءة أدعية على رجال الشرطة المتهمين بمساعدة التحرشات المهينة التى تعرضت لها بعض الصحفيات والناشطات يوم الاستفتاء أمام نقابة الصحفيين المصريين، وهو تندر لا ينفى رمزية الذهاب إلى مسجد يؤمه بسطاء الناس، فى تعبير عن الإصرار بالتمسك بالشكوى ضد المتجاوزين الذين ما زالوا طلقاء ودون حساب. لكن اليقين أن هناك جرأة كبرى فى تظاهرة يوم 26 يونيو الجارى أمام مبنى مباحث أمن الدولة فى وسط العاصمة، وهو المبنى الذى يرمز للاعتقال ومتابعة الناشطين سياسيا، ويعتبره كثيرون رمزا للتعذيب، الذى يجب مناهضته ومحاسبة القائمين به أيا كانت مواقعهم. كما تبدو الجرأة أيضا فى جملة الشعارات التى رفعت وتركزت حول المطالبة بإقالة كبار رجال الشرطة. وما دام الأمر يتعلق بالجرأة، فالرسالة باتت ظاهرة للعيان. فالناس حين يتخلّون عن الخوف، يمكنهم أن يحاسبوا رموز القهر والاستبداد. ----- صحيفة العرب الدولية في 30 -6 -2005