تذكرت مصر حين استوقفتني أبيات حب بثّها أحدُهم فقال: وكلٌ يدّعي وصلاً بليلى، وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا. حدثت نفسي كم أنا وأنت أدعياءُ في حبنا لمصرَ بينما في واقع الأمر نحن أحدُ إثنين: أحدهما يدق فيها معاولَ الهدم ولو لم يدرِ، والآخر شديد السلبية فلم يحرك ساكنا فيبني لها مجدا. وفي هذا الصدد، تحاورت يوما مع أحد الملحدين فقلت له: ألا تجزع من فكرة الموت والحساب؟ فقال: لا، حتى وإن كانت حقيقة، فأنا أمشي بين الناس بالخلق الحسن وأبني ولا أهدم وأرنو للعلا في هذه الدنيا. فإن كان البعثُ حقا، كما تدّعي، وللوجود خالق، فإن لي عنده للْحُسنى، فميثاق الشرف والخُلق اللذَيْن تحليتُ بهما يلزمان الخالق بإدخالي الجنة. تعجبتُ من فكرة ميثاق الأخلاق الذي ابتكره صاحبي وألزم به نفسه وخالقه. فضربت له مثلاً وقلت: أرأيتَ إن كان لك زوجة تشتري لها الهدايا كل يوم، ولأنّك تحب اللون الأزرق فأنت تشتري لها كل ماهو أزرق ثم تهديها إياه فرِحاً جزلاً كل مرة دون أن تذكر يوما أن تسألها عن لونها المفضل. أفي هذا عدل؟ فأنَّا لمن غفلت عنه ولم تتحراه يوما أن يحبك؟ هكذا أيضا حالنا مع مصر، مع فرق جوهري أنّ مصرَ وحالَها وحاضَرها ومستقبلَها يصرخ ذاتيا بما تحتاجه من عطاء في باب الحب، يدفع عنها شر المتربصين ويجددُ لها نضارة الوجه الذي غبّره ظلم السنين، ويؤسسُ لمستقبلها بين الناهضين. أمّا أنا وأنت فما سمعنا صراخَها ومارأينا دمعَها وجعلنا همّها خلف ظهورنا ثم مانفتأ ندّعي وصلاً بمصرَ ومصرُ لا تقرُّ لنا بذاكا. وفي واقع الأمر فقد سئمت أذنايا وعينايا سماع ورؤية الأغاني وأصحاب الطرب صباحَ مساء يتغنَوْن بالحب العاقر الذي لم يلد يوما حقلا أو مصنعا أو يصنع خبزا يسدّ رمق الجائعين. وضاق صدري وتهدجت أنفاسي وأنا ألهث بحثا عن المدد فلا أجد إلا الفضائيات – وماحلقت في أفق الحق يوما- وهي تصب علينا حممَ السفاسف والهدر ليل نهار. ومازالوا بحب مصر يتغنون، وهم للفوضى في دروبها يسعون وفي صدور الخلق يبذرون الفتنة والضحالة والسفه. فقلت ألجأ إلى نفسي وإليك أنت عزيزي القاريء وأبحث كيف نترجم الحب لمصر شمساً تشرق ونهرا يجري وزرعا ينمو وماكينة تدور. ولذلك سبيلان يشد بعضهما بعضاً. أما الأول فاستحضار رضا الرب، فحب الوطن من الدين، وهو الدائرة الصغرى التي تحتضنها دائرة حب الإسلام الأرحب، وبدون الأخيرة لا يكون حب الوطن ذخرا للآخرة؛ وأما الثاني فانظر أنا وأنت فيما بين أيدينا من أعمال وواجبات ومهام فنتقنها ونوظفها لهذا الحب الحقيقي الذي يسمن ويغني من جوع، لاحبَ الأدعياء. فللأم أن تغرس في أطفالها وهم ذاهبون لمدرستهم أن اجتهادهم ودرسهم، وإن صعب، هو حبٌ للوطن. وللطالب أن يدرك أن دأبه ومثابرته لتحصيل العلم والنهوض بعلمه ومعرفته هو حب للوطن، وللعامل والعالم أن يدرك أن كل لحظة للإنتاج والإبداع هي أيضا حب للوطن. فهل تدري أن الأمة كلها تأثم إن كان ثمَّ ثغرةٌ في جدار الوطن، سواء كانت تقنية أو فكرية، حتى تُغلق؟ وهل تدري أن الأمة كلها تأثم إن تفوق عليها العدو بسلاح أو منتج أو فكرٍ حتى يتم اللحاق به؟ وهل تدري أن الأمة كلها تأثم إن إعتمد غذاؤها ودواؤها على العدو حتى تفيء. وهكذا يستطيع كل ذي عينين أن يرى ويسمع بحاجة الوطن الماسّة، الملّحِ منها والآجلِ، فينهض مع ذلك كلُ واجب ويتوارى معه كل تافه حتى يغطي صوت الإنتاج وسد الحاجات على كل صوت. وقديما قلتُ: فلإن كان الجوع يعربد، فليسقط كل شعار ولينهض كل الأحرار وليبقى السيفُ البتار عملا دوما ليل نهار كي نشعلَ في الجوع النار فلنشعل في الجوع النار. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]