في البدء بدا لي الأمر غريبا ينتمي لأدغال الأمراض النفسية المتشابكة ..ذلك الدغل الذي نخشى مجرد الاقتراب منه خوفا أن نضل طريقنا فيه فلا نستطيع العودة ..عن آكل لحم البشر الألماني أتحدث ..ذلك الحدث الذي عاد يهز ألمانيا بمناسبة المحاكمة الثانية لمهندس الكمبيوتر الألماني "أرمين مايفس " الذي قام بذبح مهندس ألماني آخر يدعي "بوتر" عام 2001 بعد أن قام بقطع عضوه الذكري وأكله أمامه، ثم قطع جسد ضحيته ووضعها في الثلاجة ليلتهمها فيما بعد على دفعات .. الخبر في حد ذاته ليس غريبا فأكل لحم البشر قد مورس تقريبا في كل المجتمعات البشرية (بما فيها مصر في عصور الجفاف) لكن الجديد هنا أن القاتل هنا لم يختطف الضحية عنوة كما يتبادر للذهن لأول وهلة ..على العكس لقد ذهبت إليه الضحية بكامل إرادتها بعد إعلان نشره على النت يطلب فيه أشخاصا لذبحهم ذبحا حقيقيا .. هنا وجه الغرابة وذلك الطابع ( الطقسي ) الذي لا تخطئه العين ..وهو – أيضا - ما أوقع المحكمة في حيرة لعدم وجود نصوص مناسبة في القانون الجنائي الألماني ..فالقاتل يؤكد على حق الإنسان في التصرف ببدنه وحياته في ثقافة تحترم الحرية الشخصية إلى حد الهوس ..بل أن الذبيح طلب من قاتله في إلحاح أن يكرر الفعلة مع آخرين لأنه لا يريد للحمه أن يبقى وحيدا في الثلاجة على حد تعبيره ..المحكمة الألمانية لم تجد سبيلا لمحاكمته سوى في اتهامه بقطع العضو الذكري للضحية رغما عن أرادته كما أن حفظ اللحم في الثلاجة شيء غير قانوني..باختصار صدر حكم بسجنه ثمانية أعوام ونصف ( ؟؟؟) فقط لا غير .. الاستئناف العام طلب إعادة المحاكمة رغبة منه في حكم رادع نظرا لكونها السابقة الأولى التي يخشون تكرارها فيما لو ظل الحكم متساهلا فقضت المحكمة بسجنه مدى الحياة هذه المرة بتهمة القتل إشباعا لغريزة أساسية كما قال منطوق الحكم . .............................. بعد الصدمة الأولى ..وبقليل من التفكير تكتشف أن هذه الجريمة ليست بعيدة جدا عما يحدث في عالم الواقع كما يتبادر للذهن لأول مرة ..فهي تمارس بصورة شبة يومية في تلك العلاقة المربكة بين الحاكم والمحكوم ..بين السلطة والرعية ..بين الفرعون والشعب. عملية صناعة الطاغية أجملها القرآن الكريم في قوله تعالى" فاستخف قومه فأطاعوه " ..استخفاف من جانب الديكتاتور / آكل لحم البشر ، وخضوع في الجانب الآخر من الشعوب المحكومة ..حينما جمع فرعون الشعب المصري في يوم الزينة وحدث ما نعرفه من سجود السحرة واعترافهم بمصدر المعجزة وإيمانهم برب هارون وموسى فاشتعل غضب فرعون وكان تفسيره الوحيد لما يحدث هو نظرية المؤامرة ( إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ) ، ونفذ أمره القاسي بصلب السحرة بعد تقطيع أيديهم وأرجلهم ..حينما حدث ذلك كله كان رد فعل الشعب المصري هو الخضوع رغم أن الخوف لم يكن مبررا للصمت والتواطؤ فلا ريب أن حجرا واحدا يلقيه كل واحد منهم على جند فرعون كان كفيلا بهزيمتهم والقضاء عليهم .الظاهر أنهم وجدوا لذة خفية في الاستسلام لفرعون تماثل تلك التي استشعرها الذبيح ..والدليل أن بني إسرائيل أنفسهم تمردوا على المن والسلوى وطلبوا بأنفسهم طعام المستضعفين..وطلبوا كذلك إلها يعبدونه كما يفعل السادة . .......................... والحقيقة أنه لطالما أثار حيرتي استسلام هامات مصر العالية للحكم العسكري المطلق بعد 23 يوليو ولبسهم "الطرح "طواعية رغم أنه منذ زمن ليس ببعيد هدد العقاد مثلا في البرلمان بسحق أكبر رأس في البلد تعبث بالدستور .. عملية صناعة الديكتاتور بدأت في نفس ليلة الانقلاب 23 يوليو حينما عرض رئيس الوزراء استقالة حكومته فوافق عبد الناصر على الفور كما حكي لنا هيكل رغم أن مثل هذه الفكرة لم تكن تخطر ببالهم أصلا وكان كل هدفهم من الحركة هو إصلاح الأوضاع الداخلية في الجيش..ولكنهم وجدوا خضوعا لم يكونوا يتوقعوه أو حتى يطلبوه فتحول الضابط الثائر لديكتاتور في الحال . لذلك لم يكن غريبا أن يعرض عبد الناصر بعدها إلغاء الرقابة على الصحف فيرفض الصحفيون عن بكره أبيهم كما قال أنيس منصور " خليها يا ريس " لأن الحرية بدت لهم وقتها ضياعا غير مأمون الجانب..ووصل الحال إلى أن يكون من ضمن مقررات المرحلة الابتدائية وقتها تلك الجملة الفريدة " خلق الله لنا العينين لنرى بها جمال عبد الناصر وخلق لنا الأذنين لنسمع خطب الزعيم " حتى تطوع رجل شريف بالذهاب إلى مكتب هيكل في الأهرام ليسأله هل حقا يقبل عبد الناصر بهذا؟ ، وفي الصباح التالي جاء الأمر برفع تلك الجمل . ......................... السفاح الألماني كان طفلا انطوائيا بعد أن هجر والده وأخوته المنزل وماتت جدته فبدأ في تخيل وجود أخ له يتحدث معه ..وكانت نقطة التحول هو ذلك المشهد في فيلم روبنسون كروزو لآكلي لحوم البشر فبدأ يقطع - في أحلام يقظته- زملاءه في المدرسة ويأكلهم ..ثم تطور الأمر بصناعة أجزاء بشرية من الشيكولاته وأكلها ..وشواء العرائس على النار ..حتى تلك اللحظة كان الأمر مقصورا على عالم الأحلام والرغبات الشاذة ، ولكنه لم يتحول للفعل إلا حين نشر إعلانه على النت طالبا فيه رجال للذبح تحت اسم رمزي " أنثرو فاجوس " وهو الاسم اللاتيني لآكل البشر فوجد من يأتي إليه بإرادته الحرة مبديا استعداده لتقديم نفسه. باختصار هناك قدر لا بد منه من الرضي والقبول بين السفاح والضحية .. ............................... السفاح الألماني لم يكن يكره ضحيته وهو يمزقها ..على العكس قال لهيئة المحكمة " مع كل قطعة كنت آكلها كنت أشعر بأنني قريب منه وعلى صلة به وكأنه أخي " ..وكذلك قطعا سفاح مثل صدام حسين الذي لو سألته عن مشاعره صوب شعب العراق لهتف من أعماق قلبه أنه يحبهم ..وهو صادق في دعواه لولا أن تعبير الديكتاتور / آكل لحوم البشر عن الحب يكون دائما مصحوبا بالرغبة في القهر والسيطرة والإيذاء ..وفي المقابل خضوع من الضحية / الشعب ..شيء قريب من ولع بعض المختلين المرضي برجال الشرطة ولطالما شاهدت مجذوبا يحوم حول مديرية الأمن يعلن بصوت مرتفع عن خضوعه لهؤلاء الضباط الذين يمثلون له القوة والقدرة والسيطرة .. لذلك فإنني أصدق أن كثيرين يشعرون في أعماقهم بالحنين لعهد صدام ..وربما يضايقهم مثوله أمام المحاكمة ..وليس من الضروري أن يكون الديكتاتور / آكل لحم البشر مجنونا تماما ..أمام محكمة فرانكفورت ظهر السفاح بمظهر محترم مرتديا بذلة ورباط عنق ، وكان يتحدث بصوت خفيض ورد على كل الأسئلة بأدب وتحفظ ورباطة جأش. بالظبط الذي نشاهده في محاكمة صدام . ........................................ الخلاصة أن الخوف وحده ليس مبررا مقنعا لاستعباد الشعوب لصالح سادتها ما لم تكن ترغب من أعماقها في الخضوع..وحينما تتخلص من هذا الداء الدفين ، وقتها فقط يصبح ممكنا أن نتحدث عن شعوب حرة .. [email protected]