لاحظت كما لاحظ غيرى ولاحظ العالم كله أيام الاستفتاء نزول المستفتين من عامة الشعب المصرى وطوائفه المختلفة: مثقفيه وعلمائه من الرجال والنساء شبابا وكهولا، مرضى وأصحاء، مسلمين ومسيحيين إلى اللجان بكثافة غير معهودة، وبإصرار على المشاركة والوقوف فى الطوابير لساعات طويلة فى هذا الجو البارد، حتى انتهى الاستفتاء على الدستور المصرى الجديد وقال الشعب العظيم كلمته ليحسم الجدل السياسى المحتدم الذى شهدته الساحة المصرية، بإقرار الدستور، وما علينا إلا أن نرضى بما تمخضت عنه هذه العملية الديمقراطية من نتائج، إذا كنا نريد الديمقراطية ونسعى من أجلها. والدستور جهد بشرى لمجموعة متميزة من العلماء والخبراء القانونيين والدستوريين وأساتذة الجامعات والمفكرين وعلماء الأزهر وممثلى الكنائس المصرية المختلفة الذين بذلوا قصارى جهدهم وأمضوا فيه من الوقت والمشاورات والمراجعات واستلهام ما وصل إليهم من آراء واقتراحات عبر وسائل التواصل المختلفة كما اطلعوا على الكثير من دساتير دول العالم، آخذين فى الاعتبار الدساتير المصرية السابقة على هذا الدستور. إذن فهناك جهد عظيم لا يُستهان به ولا يُقلل من شأنه أو يُشكك فى مصداقيته أو مصداقية وإخلاص من قاموا به. والدستور من وجهة نظرى يعبر عن الشعب المصرى كله أحسن تعبير ويضمن حقوقه وحرياته وكرامته الإنسانية. وإذا كان فى الدستور بعض القصور يراه البعض، فإن ذلك يمكن أن يعالج بالحوار، ثم يعدل؛ لأن الدستور ليس كتابًا سماويًا مقدسًا، والنقص من طبيعة البشر، ومن ثم لن يكون هناك إجماع فى الرأى على الدستور أيًا كان واضعوه. وقد بين القرآن الكريم فى أكثر من موضع أن الاختلاف سنة كونية من سنن الله عز وجل، نراه فى الطبيعة، يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ)، (فاطر: 27). كما نراه بين بنى البشر، يقول تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود:118). وقد عُرِض الدستور على الشعب – مصدر السلطات - للاستفتاء عليه ليقول فيه كلمته إما ب (نعم) أو (لا)، ليحسم الخلاف السياسى الذى كاد أن يقسّم الشارع المصرى الى متناحرين وشركاء متشاكسين، ويعصف بأمنه واستقراره، ناهيك عما أحدثه ويحدثه الإعلام من تهييج للمشاعر وإثارة للنعرات والخلافات، التى وصل تأثيرها إلى تلاميذ المدارس فانتشر العنف بينهم واختلفوا لدرجة التشابك بالأيدى. وعلى الجانب الآخر فقد كانت هناك تصريحات وأقوال غير مسئولة تُسيء إلى الإسلام والإسلاميين، بل وإلى المسلمين جميعاً، كتكفير البعض للمخالفين فى الرأى، وكالخطب والفتاوى التى يتسم بعضها بالحدة والعنف دون مراعاة للظروف والأحوال والسياقات ومشاعر الآخرين، والتى قد تعطى انطباعًا مغلوطاً عن طبيعة الحكم فى الإسلام الذى يختلف تمامًا عن مفهوم الدولة الدينية فى الغرب؛ ذلك أن نظام الدولة الدينية فى الغرب كان يقوم على عصمة الحاكم –المُعتبر ظل الله فى الأرض- وسلطانه الكامل على الشعب وهذا بخلاف نظام الدولة فى الإسلام الذى يقوم على مبدأ الشورى والتداول السلمى للسلطة بالطريقة المناسبة لكل عصر، يضاف إلى ذلك أن الإسلام ليس فيه طبقة "رجال دين"، وأن الحاكم ليس معصومًا، وقد أعطى الإسلام للشعب حق الاعتراض على الحاكم الظالم المستبد بل وعزله واختيار من هو أفضل منه، وكل ذلك يتنافى مع المفهوم الغربى للدولة الدينية. وهكذا فالدولة الدينية بالمفهوم الغربى لم يكن لها وجود حتى فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين؛ بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم مع تنزُلِ القرآن الكريم عليه، وضع فى المدينةالمنورة دستورا خاصا بالحكم، أرسى فيه مبادئ الحقوق والواجبات وسائر الحريات لجميع مواطنى الدولة المدنية، بغض النظر عن دينهم أو لغتهم أو عرقهم، وهو ما عُرِف بدستور المدينةالمنورة أو صحيفة المدينة. إن المعارضة والتظاهر حق سياسى وظاهرة صحية ما لم يؤديا إلى مزيد من الصراع والانشقاق والتمزق والتفتت بين أبناء الوطن، وتربص كل طرف بالآخر، وإلى الخروج السافر على الشرعية والديمقراطية بما يؤثر بلا شك على مصالح الشعب وأخلاقه وقيمه. ونؤكد هنا أن دور المعارضة الحقيقى يكمن فى أنها تنبه وتنير الطريق للشعب ولصانعى القرار من خلال القنوات الشرعية والمؤتمرات والتجمعات الحزبية والمظاهرات، وليس لها أن تحشد وتعبئ الرأى العام ضد الشرعية باستدعاء الذاكرة السلبية التى شكلتها الأنظمة الفاسدة ضد فصائل معينة من أبناء الوطن. كما أنه ليس لها الحق بأن تنادى بإسقاط الرئيس المنتخب بإرادة شعبية حرة لمجرد أنه ليس على الهوى السياسى لها. وما دمنا قد لجأنا إلى صندوق الاقتراع وارتضينا ما يتمخض عنه من نتائج فلابد أن نلتزم بنتيجة الاستفتاء، ونحترمها ونلتف حولها جميعًا مهمًا كانت؛ حتى يستقر المجتمع ويعود الأمن إلى الشارع المصرى وإلى الجماعة المصرية، ولابد أن نتعاون جميعًا ونعمل بجد واجتهاد على الخروج الآمن من هذا النفق المظلم والمُدخِن الذى يصيب الجميع باختناق، ونشرع على الفور فى بناء الدولة الحديثة التى قامت الثورة من أجلها، حتى نلحق بركب الدول المتقدمة، لأن المظاهرات والاعتصامات والهتافات والشعارات وجدل النخبة لن يملأ البطون ولن يحل المشكلات أو يقضى على الأزمات التى تمر بها مصر. وما لم لم يكن هناك استقرار وتعاون من جميع المواطنين وتعديل للمواقف فلن يكون هناك بناء ولا نهضة ولا تقدم؛ ولا حل لهذه المشكلات المتراكمة إلا بالاحترام المتبادل والثقة بين أبناء الوطن وعدم التخوين أو التهوين أو التهويل، والكف عن إطلاق الشائعات والاتهامات، وعن تسليط المجرمين المستأجرين على المواطنين الشرفاء لإرهابهم، وعلى مؤسسات الدولة لتخريبها. ونتساءل كيف يحدث الاستقرار ويعود الأمن بكل أنواعه فى ظل تعنت المعارضة فى موقفها وتحديها السافر لإرادة الشعب وللشرعية؟ لقد تعب الشعب المصرى وأصيب بدوار سياسى وأمسى الكثيرون من أبناء الوطن لا يعرفون إلى أين تتجه مصر، ولا ماهو نافع للبلد ولا ماهو ضار، فلقد أصاب التشويش المتعمد على الشرعية وعلى نتائج الاقتراع الحر الكثير من المواطنين، بحيث لم يعودوا قادرين على معرفة الحق من الباطل والغث من الثمين، فى ظل ما كان يغرقه به الإعلام من أفكار وآراء وتحليلات ومناظرات تأخذ فى أغلب الأحيان منحىً واحداً أو مناحى متشابهة، تصب فى اتجاه الإثارة والتهييج والتطاول على الحاكم الشرعى المنتخب بإرادة الشعب. فهل العلة فى كل ما جرى كانت تكمن فى رموز السياسة المصرية الذين لا يتفقون مع الأغلبية ولا يغلّبون مصلحة الوطن، ولا يقبلون الحوار؟ وإذا قبلوه على مضض لا يتقيدون بنتائجه؟! حتى إن بعض سياسيينا قد عاد لا يفرق بين الخصومة السياسية أو الحزبية والخصومة الشخصية. فقد اختلطت المعايير فى الواقع السياسى والتبست فى الأذهان الأمور وغابت القدوة السياسية، وتعذرت الرؤية المستقبلية، بحيث تشابه الأصيل والبديل، والممكن والمحال فى العمل السياسى المصرى فى المرحلة الراهنة. وبعد إقرار الدستور نؤكد أنه لن يكون هناك استقرار ما لم نتحد ونتكاتف ونتعاون، وينبذ كل منا أسباب الفُرقة والنزاع وننتزع فتيل الفتنة ونستجيب لنداء الله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال 46). فالتنازع يؤدى حتمًا إلى الفشل والإفلاس ويذهب بكل عناصر القوة التى لا يمكن لأى أمة من الأمم أن تقوم أو تنهض بدونها. ويؤدى حتمًا إلى سقوط الدولة وهزيمة أبنائها سياسيًا ونفسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا... إلخ. إننى أدعو كل القوى وكل الشباب الواعى والواعد وكل مواطن مصرى مخلص لهذا الوطن العظيم أياً كان موقعه أن يُعمِل عقله ويراجع حساباته ويتدقق ويتثبت من صحة ما يسمع أو يشاهد، ومن صدق ما يقول، ولا يجعل معتقده السياسى أو انتماءه الحزبى، مهما كان، فوق مصلحة الوطن العليا، ويدرك أن العناد والإصرار خسارة وبوار وأنه يصب مباشرة فى مصلحة أعداء الوطن، ويجب علينا جميعًا أن نحافظ على الثورة من أن تُخترق أو تُختطف، وأن نعمل جميعًا على إخماد هذه الحرائق التى يشعلها أعداء مصر فى الداخل والخارج بأيدى المجرمين من الأبناء العاقين لهذا الوطن، الذين كانوا جنودًا وحراساً للمفسدين الذين ضيعوا البلاد وأذلوا العباد، ولنكن جميعًا يقظين لما يُحاك ضدنا من مؤامرات ودسائس بأيدى بعض المارقين، ولنقف فى وجه هذه الأزمات والتحديات كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمى. وعلينا أن نتمثل دائمًا قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، (آل عمران: 103).