الفقرة الأهم فى بيان المستشار محمود مكى بشأن استقالته من منصب نائب الرئيس جاء فيها: "وقد أدركت منذ فترة أن طبيعة العمل السياسى لا تناسب تكوينى المهنى كقاضٍ". فى الدستور الجديد تم إلغاء منصب نائب الرئيس الذى لم يكن ذا معنى ويبقى شاغله بلا دور فى صنع القرار، بل هو مجرد منصب شرفى منذ عبد الناصر والسادات ومبارك إلى مرسي، لكن من مفارقات القدر المدهشة أن الصدفة تدخلت مرتين لتمنح شاغل هذا المنصب دورًا لم يكن يحلم به وهو جالس فى الظل فقد أفاد نائبين ليصبحا فى غمضة عين رئيسين، السادات الذى عينه عبد الناصر نائبًا لحين عودته من مؤتمر قمة عربية فى المغرب ثم فاضت روحه بعد أشهر قليلة فوجد نفسه رئيسًا، ومبارك الذى استفاد من لحظة اغتيال السادات فأصبح أطول رئيس فى تاريخ مصر. طبيعة النظام السياسى المصرى فى الجمهورية الأولى هى التى دفعت بالاثنين - السادات ومبارك - إلى سدة الحكم فلم تكن هناك انتخابات تنافسية حرة، إنما استفتاء على من يقع عليه الاختيار من كبار رجال النظام. إذا كان الدستور لا يحدد مهامّ لنائب الرئيس فإنه بجانب ذلك لم نعلم للمستشار محمود مكى دورًا واضحًا فى مشاركة الرئيس فى إدارة الدولة خلال الأشهر التى تولى فيها المنصب، بل إنه لم يظهر للرأى العام إلا مرات محدودة، وقام بمهمة خارجية واحدة نيابة عن الرئيس بعد اضطراره للبقاء بالقاهرة بسبب العدوان على غزة. فى قرار تعيينه حدد مرسى مهام عديدة لنائبه، لكن من الواضح أنها كانت على الورق فقط، فلم يكن لها ظل فى واقع الممارسة حيث خرجت قرارات مهمة من الرئاسة دون علم أو مشاركة النائب فيها وباعتراف مهذب منه فى بيان استقالته. مع ذلك لم نلمس وجود خلاف بينه وبين الرئيس، حتى فى البيان كان رقيقاً وسعى فيه للتجاوز عن أى تهميش تعرض له، لكن قراءة ما بين السطور والعودة إلى تصريحات سابقة له تجعلنا نستخلص أنه لم يكن راضيًا عن كل ما يصدر عن الرئيس والإدارة المرتبكة لشئون الدولة، بل هناك قرارات صدرت دون أن يكون النائب فى الصورة أو المشورة وأبرزها الإعلان الدستورى فى 21 نوفمبر، فقد اعترف بشجاعة أن الإعلان صدر وهو بالخارج ولم يعلم به، وكانت له تحفظات على بعض بنوده، كما أنه لم يكن راضيًا عن الدستور بالكامل، حيث أبدى تحفظات على بعض مواده، لكنه مع ذلك حاول القيام بدور الإطفائى بين الرئاسة وبين المعارضة فى أزمة الإعلان الدستورى وتصدى لإدارة الحوار الوطنى، وأبرز ما توصل إليه إلغاء إعلان 21 نوفمبر وإصدار إعلان جديد مخفف، لكن ظلت أزمة الدستور قائمة دون حل، حيث يبدو أن الرئيس قدم تنازلاً فى الإعلان الدستورى وظل على موقفه فى الدستور حفاظاً على هيبة الرئاسة وقراراتها، علمًا بأن الهيبة تتآكل منذ حكم المجلس العسكرى وتتزايد مع مرسي. جلس مكى على كرسى لم يكن له كقاضٍ جليل لا يعرف ألاعيب الساسة والسياسة، فالأكثر لياقة لهذا المنصب هو رجل سياسة حتى لو كان دوره شكليًا أو شرفيًا، ولذلك كان منطقيا أن يتململ ويبادر بالاستقالة وهو ما فعله فى 7 نوفمبر الماضى، وربما الأزمات المتتالية بين الرئاسة والمعارضة وقرارات الرئاسة المرتبكة وتراجعاتها جعلت مكى غير راضٍ عن الأداء أو أن وجوده فى تلك الفترة الحساسة التى سيتحمل جانبًا من المسئولية السياسية والأدبية عنها أمام التاريخ جعلته ينتهز فرصة الاستفتاء على الدستور ليبتعد. الدستور الجديد لا ينص على وجود منصب نائب الرئيس، وهذا الغطاء مبرر لكى لا ينظر للاستقالة على أنها هروب أو خلاف مع الرئيس، وهو فعل ذلك قبل أن تعرف نتيجة التصويت ليبعث برسالة مفادها أنه يغادر أيًا كانت النتيجة، فهى لو جاءت ب"نعم" فإنه عمليًا سيعتبر مستقيلاً، وإذا كانت "لا" فإنه يكون قد استبق وتخلص من هذا العبء السياسى للحفاظ على صورته كواحد من القضاة البارزين الذين دافعوا عن استقلال القضاء وتعرضوا للتنكيل من النظام السابق. صورة المستشار محمود مكى تشوشت بعض الشيء ربما على غير إرادته لكنه يبقى فى النهاية رجلاً محترمًا. [email protected]