بداية، أرجو ألا تأخذ أخى القارئ العنوان على محمل الجد، فأنا أعترف أن فيه مبالغة لكنها مقصودة، وتشير إلى أن العدد الذى احتشد يوم السبت فى ميدان "نهضة مصر" أمام جامعة القاهرة، لتأييد رئيس الجمهورية والإعلان الدستوري، هو عدد تجاوز المليون، ويفوق بمرات كثيرة أعداد التظاهرات المناوئة للإعلان. واضح أن القوى الليبرالية واليسارية وغيرها من معارضى الإعلان الدستورى، قد استخدموا الوسيلة الخطأ لمواجهته، حين رضوا بالنزول إلى الشارع ضده؛ لأن الإسلاميين يتفوقون عليهم فى هذه الناحية بكثير، ومن السهل عليهم كما حدث اليوم أن يردوا بأعداد أكبر. لكن البعض يصر على عدم رؤية الحقيقة، ولا يريد أن يصدق أن الشارع مازال مع الإسلاميين، وإن اختلفت نسبة التأييد، لكنها مازالت فى إطار الأغلبية المريحة، وهذا ما يجعل الرئيس محمد مرسى يُقدِم على خطوة طرح مسودة الدستور للاستفتاء وهو مطمئن إلى النتيجة. الطريف أن القوى الليبرالية واليسارية، كما هو واضح من تجارب سابقة، تنجح فى الضغط على القوى الإسلامية فى الغرف المغلقة بخلاف الشارع، كما تنجح فى تعويض خسارتها فى "صندوق الانتخابات" بانتزاع بعض المكاسب عبر "الضغط الإعلامي". ولذلك لم يحالفها التوفيق حين رضيت أن تنزل إلى الشارع الذى هو "ملعب" الإسلاميين بامتياز!! لكن واضح أيضًا أن الضغط فى الغرف المغلقة وعبر الفضائيات قد انتهى إلى آخره، ولم تعد هناك فرصة لتحصيل أية مكاسب أخرى تنتزعها هذه القوى من الإسلاميين، ولم يعد أمامها سوى الشارع والميدان، وبالذات: ميدان التحرير لما له من رمزية. لكن السؤال المهم: ما هى بالضبط نقاط الاختلاف؟ وهل توجد مساحة فى هذه النقاط للتنازل؟ أم إن الأمور وصلت بالفعل إلى الحد الأدنى الذى لا يمكن حسمه إلا بالانتخابات، أى بالتصويت والاستفتاء؟ أعتقد أن نقاطًا كثيرة كان حولها خلاف، تم تقريب وجهات النظر حولها، ثم وصل الجميع إلى الحد الأدنى، كما رأينا فى الخلاف حول المادة المفسِّرة ل"مبادئ الشريعة الإسلامية". من البداية وهناك اختلاف حاد حول المراد من "مبادئ الشريعة"، وحول حذف كلمة "مبادئ"، ثم رضى الجميع بمن فيهم الكنيسة بالاحتكام للأزهر فى تفسيرها، لكن عند الجد اعترض الكثيرون وانسحبت الكنيسة، بسبب المادة المفسرة التى وضعها الأزهر لا الإسلاميون!! فى خطوة رآها مراقبون خطوة غير جيدة فى بداية عهد الكنيسة الجديد! ولنا أن نتساءل: إذا كان الجميع من قبل يتشدقون بمرجعية الأزهر وبدوره فى الحياة الفكرية الوسطية الإسلامية، فلماذا يرفضون مادة من وضعه هو؟! وقس على هذا مواد أخرى، لدرجة يمكن أن أجزم معها أنه لا يوجد خلاف حقيقى، وأن الأمر كما عبر عنه بعض المنسحبون أنفسهم مثل د. أيمن نور، هو أن بعض القوى السياسية ُتحمِّل خلافاتها السياسية على الجمعية التأسيسية، يعنى بالواضح: تصفية حسابات!! فهل هذا معقول؟! بل صرح المستشار حسام الغريانى أن بعض المنسحبين أبلغوه أنهم انسحبوا بضغط من الأحزاب التابعين لها، وأنهم يودّون العودة لكن لا يستطيعون! لهذه الدرجة صار دستور مصر مسرحًا للسياسة وألاعيبها! نعود لموضوعنا ونقول: هل فقدت القوى الليبرالية واليسارية سلاحها فى مواجهة الإعلان الدستورى؟! الخيارات أمامها فعلًا قليلة جدًا لحد الانعدام، خاصة وسط حالة زهق من رجل الشارع العادى الذى بات أكثر يقينًا بأن خلافات النخبة والسياسيين بعيدة عن همومه اليومية. القوى الليبرالية واليسارية أمام خيارين ترفضهما معًا!! إما أن تذهب للتصويت ب "لا" على الدستور لتصبح أمام استمرار الإعلان الدستورى الذى ترفضه، وإما التصويت ب"نعم" لتصبح أمام الدستور الذى ترفضه أيضًا!! إذا طلب منى أحد النصيحة، فالخيار الثانى أفضل، أو أقل ضررًا.. لكن هل تملك القوى الليبرالية واليسارية الشجاعة لمراجعة نفسها وتصحيح مسارها، وتدرك أن الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى التظاهر أو الدعوة إلى العصيان الذى لم ينجح من قبل ضد المجلس العسكرى - الذى كان محل رفض من الجميع -، ومن الصعب أن ينجح ضد الرئيس صاحب الشعبية الواضحة؟! أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]