إن إصدار إعلان دستورى يتم فيه تحصين قرارات الرئيس وتحصين مجلس الشورى المنتخب وتحصين لجنة صياغة الدستور هى كلها زوايا لا يمكن أن تسقط على "حين غرّة من السماء" ولا تجعلنى من باب الإنصاف أفترض أن السيد رئيس الجمهورية وقع فى هوى الديكتاتورية بمقدار ذرة واحدة، وهو ليس بحاجة إلى ذلك وهو الذى "وقع فى حجره" قلم التشريع من غير أدنى سعى منه بالإضافة إلى سلطاته التنفيذية، وإنما تجعلنى أفترض أن ما صاغه الإعلان الدستورى إنما هو "رد فعل إنقاذي" على فجور سياسى يجرى من خلف الستار ضد الإنجاز السياسى الثورى للشعب حتى الآن والمتمثل فى شخص الرئيس والمتمثل فى المرجعية الإسلامية الوطنية للعمل السياسى لهذا الرئيس، ويبقى جبن هذا الفجور السياسى أنه يدور فى الخفاء إلى حين تتهيأ له ظروف القوة، والأخطر من هذا كله أن هذا الفجور تقتصر أهدافه على الهدم فقط وليس لديه طرح عن كيفية إعادة البناء. والعجيب الذى أراه فى ردود الأفعال من قبل الذين يريدون بأى شكل أن ينصبوا أنفسهم "المصلحين المنقذين" للأمة المصرية ولثورتها أنهم ينادون مباشرة بإسقاط الرئيس، أى أنهم ينطلقون إلى هامة الشرّ فى خطوة واحدة بدلاً من التدرج المنطقى الوطنى المألوف عند الاختلاف: فهم لم يطالبوا بالاستفتاء الشعبى حول الإعلان الدستوري، ولم يطالبوا بالاستفتاء الشعبى حول نقطة طلاقة الصلاحيات إلى أجل مسمى، ولم يطالبوا بمعلومات عن الفعل الخفى الذى جاء هذا الإعلان الدستورى ردًا عليه، ولم يطالبوا بالاجتماع مع الرئيس ليشرح لهم من أين أتى هذا الإعلان الدستورى وإلى أين يسير وما هى وجاهته. كلا.. إن مطالبهم: لا حديث مع الرئيس، إسقاط الرئيس، إسقاط الإعلان الدستوري، إضراب وشل مؤسسات الدولة، إذلال المواطن فى مصالحة اليومية للوقيعة بين الشعب ورئيسه. وبالطبع هذه القفزة فى خطوة واحدة إلى هامة الشر بحيث لا يكون فوق الشر شرًا تمثل درجة غير مسبوقة من همجية الحوار والجدل. إن هذه الهمجية واللاعقلانية فى الحوار عند الاختلاف تشير إلا وجود غيظ وحنق فى قلوب هؤلاء المهاجمين أقدم عمرًا من هذا الإعلان الدستورى وأعمق جذورًا من حدث يجرى الاختلاف عليه. والغيظ والحنق ليس موجهاً فقط ضد شخص السيد رئيس الجمهورية، وإنما يتراءى لى أنه موجه ضد المرجعية الإسلامية الوطنية لمصر. وأقول بكلمات أخرى: إن مصر اليوم على مفترق الطرق بين أبيض وأسود، بين جنة ونار. وأنا - وإن جاز لى ذلك – ألوم على الرئاسة وبخاصة على جهازها الإعلامى أنها لم تشرح "بعد رد الفعل" فى الإعلان الدستورى الأخير بالقدر المكثف على النحو الذى يجعل الأمة المصرية فى الداخل والخارج تقف خلف هذا الإعلان وخلف هذا الرئيس، كما لم تشرح بالقدر المكثف الجدوى المستقبلية من هذا الإعلان وإلى أين يمكن أن تسير مصر فى غياب هذا الإعلان ومعطياته. وكلمة "مكثف" هنا هى الكلمة الحاسمة فى الأمر كله. إذ أن فريق الهجوم اللاعقلانى على شخص السيد الرئيس يستعين بإستراتيجية التكثيف فى عرض الباطل حتى يصير الباطل حقًا فى عيون الشعب وفى عيون الخارج. لقد أجريت دراسة مقارنة فى الخطاب الجدلى بين العرب وأبناء الألسنة الأخرى فوجدت أن العربى أهم إستراتيجية عنده فى الجدل ليست الحجة المنطقية، وإنما "تكثيف عرض رأيه الشخصي" حتى تدب فى هذا الرأى الشخصى الذاتى "دماء الحجة القوية المقنعة" على عكس أبناء العجم الذى يعملون مباشرة بالحجة المنطقية. إن الذى أراه الآن هو أن فريق الهجوم على السيد الرئيس يستعين بإستراتيجية تكثيف عرض الرأى الذاتى بكل غيظ وبكل ما أوتى من إمكانات، ولا أستبعد أن يقلب الباطل الكفة لصالحة إذا لم تتحرك الرئاسة تحركًا - كما قلت – "مكثفًا" فى كل مدينة وقرية، فى كل شارع وزقاق، فى كل ورشة وسوق، فى كل مسجد وكنيسة، بالليل وبالنهار، إذًا لا يكفى بيانًا عاجلاً بين الفينة والأخرى للناطق باسم الرئاسة، إن الأمر أكبر بكثير من هذا النذر اليسير ونأمل أن تدرك الرئاسة أنها وإن كانت على الحق المبين وأن كانت تدرك جيدًا أن مصر على مفترق الطرق، فإن الرئاسة نفسها يمكن أن تضيّع هذا الحق ويمكن أن تزج بمصر إلى المجهول إذا لم تكثف من حملة التنوير حول الإعلان الدستورى الإنقاذى هذا وتستخدم إستراتيجية التكثيف وكذلك إستراتيجية الحجة المنطقية لكى يبقى الحق حقًا ويبقى الباطل باطلاً ويعلم الذين فى الخفاء بمصر ورئيسها يمكرون أى منقلب ينقلبون. كما أود أن أنوّه إلى أن الحنين إلى الديكتاتورية الدموية لا يمكن أن يغادر قلوب المصريين بين عشية وضحاها، إن هذا مرض مزمن وعلى القائمين على الأمر أن يدركوا ذلك جيدًا، فألمانيا وبعد أكثر من خمسين عامًا على هتلر ما زالت تعانى من تيارات متطرفة تمجد الديكتاتور هتلر مع أنه لم يأت بألمانيا إلا بالخراب والدمار والرماد، ولا غرو أن الأصوات التى ارتوت بماء الباطل المتبخر هى التى تتزعم الآن حملة بنى النضير على رئيس الجمهورية. و أنا لا يسعنى إلا أن أتوجه إلى الله سبحانه أن ينصر هذا الرئيس وإدارته إن علم فى قلوبهم خيرًا لهذا البلد أو أن ينصر معارضيه، إن كان الخير فى قلوبهم هم. دكتوراه فى استراتيجيات الخطاب السياسى والدراسات الإسلامية