أود أن أتعرض في مقالة اليوم إلي موضوعين لهما صلة ببعضها بعضا، الأول يتعلق بالتصريحات التي أطلقها سيف الإسلام القذافي ودعا فيها المعارضين الليبيين في الخارج إلي العودة إلي بلادهم، والثاني يتعلق بالوعود التي أطلقها الرئيس المصري محمد حسني مبارك ليحققها بعد تجديد انتخابه رئيسا للجمهورية. وكان نجل الرئيس الليبي قد طالب المعارضين بالعودة والمطالبة بأموالهم وممتلكاتهم المصادرة وشن هجوما قويا علي المحاكم الثورية التي قال إن أحكامها لم تتسم بالعدالة. ويأتي موقف نجل القذافي بعد سلسلة من الإجراءات التي اتخذتها ليبيا أخيرا وحاولت بها تطبيع علاقاتها المتعثرة مع الولاياتالمتحدة. وقال سيف الإسلام يجب ألا يكون هو الوحيد المطالب بحقوق المغتربين بل يجب أن يأتي المعارضون بأنفسهم للمطالبة بحقوقهم وتوضيح الأسباب التي خرجوا من أجلها. وما قاله نجل العقيد القذافي فيه كثير من التبسيط للأمور وإخلال بحقيقة المعارضة وأهدافها، ذلك أن المعارضة لم تذهب إلي الخارج لأن الحكومة فقط صادرت ممتلكاتها بل لان أعضاءها يختلفون اختلافا جوهريا مع توجهات النظام، ولا يري الكثيرون منهم حتي الآن اي تغير جوهري في أسلوب الحكم وأن كل ما يحاول أن يفعله النظام هو أن يبيع لهم البضاعة القديمة بثمن جديد انطلاقا من اعتقاد البعض أن التنازل للأجنبي يتطلب تنازلا ولو شكليا للوطني خاصة وأن المعارضة قد تشكل قوي تغيير حقيقية إذا تأزمت الأمور في البلاد بعد أن رأوا ما حدث لنظام صدام حسين. ويبدو مما قاله سيف الإسلام القذافي انه كان يريد تسويق نفسه علي أنه داعية الإصلاح الذي يصلح أن يكون بديلا وهي اللعبة نفسها التي مارسها جمال مبارك من قبل ولكنه لم يستطع أن يحقق بها قبولا ولو مشروطا في المجتمع المصري وليس هناك أمل في أن يستطيع سيف الإسلام القذافي أن يحقق النجاح الذي اخفق فيه جمال مبارك لأن الناس يعلمون أن قبوله كمصلح يعني استمرار النظام الليبي ثلاثين عاما أخري وهو أمر لا يبدو أن الليبيين يرغبون فيه علي الرغم من ضآلة صوت المعارضة في داخل ليبيا. والأسباب في ذلك هي أن الناس لا يشعرون أن نظام الدولة الليبي يشبه النظم المعهودة في العالم، وبالتالي لا يمكن أن يركن الناس إلي نظام يفتقر إلي أسس تداول السلطة، فقد أعلن القذافي أنه ليس رئيسا للدولة وان السلطات كلها في أيدي اللجان الشعبية وسمي وزراءه أمناء لتلك اللجان، ولكن الحقيقة غير تلك ذلك إن السلطات كلها مركزة في يد القذافي ولا يستطيع أحد أن يتخذ قرارا بدونه، ولا يسمع في ليبيا صوت غير صوت العقيد ويكفي أن تجلس أمام شاشة التلفزيون حتي تتأكد أن الحديث يدور حول شخص واحد هو العقيد ويذهب البعض في شأنه ليبحث عن الفكر الإنساني منذ أفلاطون وحتي العقيد. ومن الأسباب التي تجعل الناس يزهدون في النظام أيضا ضعف الأداء الإقتصادي ذلك أن القطر الذي يملك إمكانيات اقتصاد الكويت ما زال يعاني أوضاعا اقتصادية سيئة حيث ترتفع نسبة البطالة وينتظر كثير من العاملين شهورا قبل أن يتقاضوا رواتبهم. ولا شك أن خطاب العقيد ألهب مشاعر كثير من القوميين في العالم العربي خلال مرحلة المد القومي ولكن العقيد فجأة غير موقفه وبدأ يتجه عكس ما كان يدعو إليه بحيث لم يعد هناك هدف سوي إرضاء الولاياتالمتحدة وتطبيع العلاقات معها. والمسألة هنا لا تتعلق بالأخطاء التي يعاني منها النظام بل بالإصرار علي مواصلة المسيرة القديمة في عالم يتغير بشكل كبير، فما الذي يجعل القذافي يفكر في الاستمرار سوي الرغبة في ممارسة القديم خاصة بعد أن تلاشي كل ما دعا إليه سابقا ولم يسفر نظام الفاتح عن نظام حكم يماثل ما درجت عليه أنظمة الحكم في العالم ومع ذلك لا ترتفع أصوات الداخل مطالبة بالتغيير ذلك أن معظم المثقفين لا يراعون غير مصالحهم الخاصة دون الإلتفات لمصالح الوطن. ومؤدي ما رمينا إليه هو القول إن دعوة سيف الإسلام المعارضين العودة إلي الوطن هي اختزال للأسباب التي خرجوا بها ومن أجلها وهي بدون شك لا تتركز حول فقدهم لممتلكاتهم التي لا يرغبون فقط في العودة من أجل استعادتها بل سيفكرون في العودة إذا رأوا إصلاحا حقيقيا يعيد الحياة إلي صورتها الطبيعية كما هي قائمة في مختلف أنحاء العالم. وبدلا من أن يطالب سيف الإسلام المعارضين بالعودة للمطالبة بممتلكاتهم وتوجيه النقد للمحاكم الثورية فإن عليه أولا أن يبدأ بكل من شارك في تلك المحاكم التي يصفها الآن بأنها كانت ظالمة. لأن اتخاذ إجراءات ضد هؤلاء هي التي ستجعل الكثيرين يصدقون أن هناك بوادر تحولات حقيقية وبدون ذلك سيكون من الصعب تصديق أي كلام يقال عن عودة العدالة الغائبة. وإذا انتقلنا للحديث عن مصر لم نجد وضعا يختلف كثيرا لأن ما هو سائد فيها صورة أخري مما يجري في ليبيا وفي كثير من البلدان العربية. ذلك أن الرئيس حسني مبارك الذي ظل علي سدة الحكم أربعة وعشرين عاما لا يفكر في إفساح المجال لغيره بل يطلب المزيد من السنوات من أجل أن ينفذ برنامجا كان يمكن تنفيذه منذ السنة الأولي التي تولي فيها الحكم في مصر. فهو يريد الآن فسحة من الزمن من أجل أن يخلق مئات الآلاف من فرص العمل ويتمكن من إصلاح النظام السياسي ويدخل الحريات العامة للبلاد ويلغي قانون الطواريء ويحارب الإرهاب ولكنه لا يحدث الناس عن الوسائل التي سيحقق بها تلك المعجزات ولا يخبر الناس لماذا انتظر كل تلك السنين من أجل أن يأتي أخيرا ليخبر الناس عزمه تحقيق ما هو أمر عادي عند حكومات العالم المتحضر في كل مكان. الحقيقة هي أن معظم الطموحات التي أعلنها الرئيس حسني مبارك لن تجد طريقها إلي حياة الناس لأن نظامه لا يملك الإمكانيات لذلك ولا يملك الإرادة التي يحقق بها تلك الأهداف. وكل ما أعلنه الرئيس هو استباق للمطالب التي كان سيواجه بها خلال الحملة الانتخابية، والسؤال يبقي، هل هناك حملة انتخابية حقيقية؟ المؤسف هو أن معظم الأحزاب التي ظلت تعارض التجديد للرئيس حسني مبارك عادت الآن وقررت المشاركة، وحتي جماعة الإخوان المسلمين اتخذت موقفا سلبيا عندما دعا زعيمها أعضاء الجماعة للمشاركة في الانتخابات وإعطاء أصواتهم للصالح من المرشحين وذلك تأييد مبطن للرئيس مبارك وإضفاء مشروعية علي الانتخابات الرئاسية في مصر، وهو بالطبع أمر يسعد الرئيس لأنه اعتراف ضمني بشرعية الانتخابات التي سيستغلها الرئيس مبارك عندما يتحقق له الفوز بقوله إنها أول انتخابات تعددية في مصر وانه يمثل إرادة الشارع المصري الحقيقية. ولا شك أن فوز مبارك بهذه الانتخابات مؤكد لأنه لا يوجد نظام حزبي في مصر وتغيب مؤسسات المجتمع المدني، كما أن الحزب الحاكم هو حزب النخب المسيطرة وهو قادر علي التحكم في سائر مقدرات البلاد من إعلام وموارد مادية وأمن وقادر علي أن يلجم أي صوت معارض لصوت الرئيس. وعلي الرغم من أن الولاياتالمتحدة ظلت تنتقد خطوات الإصلاح في مصر فهي دون شك تشعر بسعادة بالغة لتطور الأحداث فيها علي هذا النحو من أجل أن تقول إنها استطاعت أن تحول مصر إلي مجتمع ديمقراطي وتزيل عن نفسها الحرج بأنها تدعم الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة. ولا شك أن وعود الرئيس حسني مبارك لن تحدث تغييرا في بنية الحياة المصرية أو صورة الحكم فيها لأن تغييرا يؤدي إلي مثل هذا الهدف سيكون كارثة علي النخب الحاكمة التي ترتبط مصالحها ببعضها بعضا وتتعارض بصورة كلية مع مصالح الشعب. وسيتضح قريبا أن انتخابات الرئاسة المصرية ستلحق ضررا كبيرا بالمجتمع المصري لأنها ستأتي برئيس يرتدي عباءة الديمقراطية وهو لم يكن في أي مرحلة من مراحل حكمه ديمقراطيا. وذلك ما سيعطيه شرعية كان يفتقدها وصلاحيات واسعة للاستمرار في الخط الذي كان يسير عليه هو ونخبته، وربما أفسح له ذلك المجال لتوريث ابنه. ولا شك أن حدوث هذا في بلد كمصر يشكل خطرا علي الأمة العربية كلها التي تنظر بترقب لتحول حقيقي في مصر تكون له انعكاسات في سائر البلاد العربية. ولكن الدول العربية تتحمل جزءا من المسؤولية لأنها لا تملك عزيمة التغيير مثل شعوب جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، أما النخب العربية فهي معطلة وفاقدة لأي دور، وتقدم بعض النخب المصرية دليلا علي ذلك بدعمها مشاركة المعارضة في الانتخابات لا لشيء سوي تحقيق الشهرة لمجموعة من الأفراد يعرفون أنه ليس هناك تبدل نوعي في أسلوب الانتخابات المصرية أو نتيجتها. وتلك قمة المأساة في أوضاع سياسية تتسم بالعجز وتتحكم فيها العشائرية والقبلية السياسية التي تفتقر إلي روح المجتمعات الحديثة ---------------------------------------------- القدس العربي