منذ عدة سنوات مضت ، نشرت صحف معارضة و مستقلة ، تحقيقات عن حفلات تعذيب مروعة ، كان ينظمها ضابط أمن دولة بمحافظة من محافظات القناة ، و نقلت الصحف حينها تفاصيل الحوار الذي كان يجري بين الضابط الجلاد ، و بين ضحاياه من أهالي أكثر مدن مصر جمالا وهدوءا و عذوبة . في واحدة من هذه الحفلات سيئة السمعة ، قام الضابط باستدعاء "ضحيتة" لمجرد أنه وصل إليه من مرشديه ومخبريه أن المسكين ، تجرأ و قال إنه سمع أن "فلان باشا" الضابط بطل حفلات التعذيب سينقل في حركة تنقلات الشرطة القادمة !! حيث تحركت قوات أمن ضخمة لتقتحم بيت الضحية فجرا ، و تنتهك حرمة بيته و عرضه و تروع أطفاله ، ثم تجرجره و هو الشيخ المسن (كان حينها في الخمسين من عمره) ، إلى مقر أمن الدولة ليشهد ليلة من أسوأ أيام حياته !! فقط لأنه تجرأ بالادعاء أن الباشا "الجلاد" سينقل في نشرة الداخلية القادمة ! أثناء استجواب الضحية تحت عمليات التعذيب البشعة أضطر فيها الضحية إلى تقبيل قدم الضابط حتى يريحه ولو دقائق معدودة يلتقط فيها أنفاسه .. أثناء الاستجواب لم يوجه الضابط شتائمه و سبابه لضحيته و حسب و لكنها أيضا تطايرت لتنال زملائه الضباط ، حيث أعتبر الضابط نفسه من طينة ثانية غير طينتهم و إنه غير قابل "للنقل" من مكانه لأنه "ابن فلان الفلاني" .. إذ كان يصيح بهستيرية في وجه ضحيته :" إنت تعرف أنا ابن مين يا بن ..." فيرد الضحية منكسرا :" ابن فلان باشا يا فندم " ، فيتابع الضابط :" يعني أنا مش زي أي ضابط تاني ... (كلمة قبيحة يعف لساني و قلمي عن نطقها" ! . رغم أن والد الضابط و أنا أعرفه لم يكن سياسيا كبيرا في البلد و إنما كان مجرد مسئول كبير في التعليم ، له صلات قوية ببعض كبار رجال الدولة . و روى لي بعدها أصدقاء من نفس المدينة ، كيف عاقب الضابط مدرسة بكاملها و أهان مدرسيها و مديرها لأن المحروس ابنه التلميذ في المدرسة ، عاقبته مدرسته لتقصيره في أداء الواجب!! عندما نشرت الصحف وقائع هذه الحفلة ، بادرت وزارة الداخلية بالتحقيق فيما نشر ، و استدعت الضحية و سمعت أقواله و وعدته خيرا ، صحيح أن المدينة نعمت بالهدوء النسبي و الضابط الجلاد "لم نفسه" إلا أن الرأي العام الذي تابع هذه القضية جرى تجاهله و لم يطلعه المسئولون عن نتيجة التحقيقات و الكل سكت خوفا و إيثارا للسلامة و مع الوقت عادت ريما لعادتها القديمة حيث رحل والد الضابط إلى جوار ربه ، و ليظل هو في مكانه يستعيد مع الوقت هوايته القديمة و كأن شيئا لم يحدث !! تذكرت هذه الواقعة و أنا أتابع واقعة مماثلة بالإسكندرية تلك التي نشرت تفاصيلها "المصريون" يوم أمس ، عندما أصطدمت سيارة ضابط يعمل في مؤسسة حساسة بسيارة مواطن غلبان ، و تجاذب الطرفان الحديث ليستدعي الضابط مأمور قسم المنتزه و رئيس المباحث بها و يأمرهما بإغلاق الشارع و تأديب الجميع ، و لأنه ضابط ب"جهاز رفيع" لم يُرفض له طلب و قام قسم النزهة بالواجب مجاملة للضابط ، و خوفا من نفوذه .. فذكر اسم مؤسسته يكفي وحده في إرهاب التخين ! صحيح أن الواقعتين الأولى و الثانية تدللان على أن مصر تحكمها "مراكزالقوى" و ليس "القانون" غير أن ثمة فارقا مهما لا ينبغي تجاهله هو أنه في الأولى سكت الناس و كظموا غيظهم أو بالأحرى خافوا التنكيل بهم ، فأنتصرت "مراكز القوى" التي عطلت قانون محاسبة جلاد أمن الدولة أما في الثانية بالإسكندرية فقد أختلف الأمر إذ إن الزمن مختلف والسياق التاريخي و تطورات الأحداث كذلك حيث تغلب الناس على خوفهم الفطري من القمع الرسمي و تظاهروا و هتفوا ضد النظام ، ما حمل محافظ الإسكندرية اللواء المحجوب على التدخل ، للحيلولة دون وقوع انتفاضة شعبية ، عشية التحضير لاستحقاقات الانتخابات الرئاسية ، و أمر بالافراج عن المعتقلين ، فأنتصرت الجماهير على "مراكز القوى" و هي فاتحة كبيرة لا شك ربما تبشر بقرب انبلاج عصر جديد لا تكون فيه كرامة المصري و عرضه مستباحين لموالي السلطان و خدمه .