ما من شك أنّ مصطلح"أهل السنّة والجماعة"ينطوي في منطوقه على المعنيين معًا؛ واجب الاتباع وواجب الاجتماع، ومع أنّ فصائل الحركة الإسلامية قادة وأفرادًا يعلمون ذلك علم اليقين إلا أنّ التشرذم والتهارج والتشتت التي تعاني منها الحركة نظرية وتطبيقًا يشي بخلاف ذلك.... فالبتتبع والاستقراء لواقع هذه الفصائل الإسلامية على اختلاف مسمّياتها تجد أنّها تنتمي لأهل السنّة والجماعة في الأصول والفروع وليس فيها ما يتحزّب علي قاعدة كلية أو أصل عام يخالف أصول أهل السنّة والجماعة في قليل أو كثير باستثناء جماعات التكفير بالمعصية! وأنّ الخلاف الواقع بينها واقع في الفروع والمسائل الاجتهادية وعلى التحقيق والتدقيق في الوسائل والخطط أو ما يسمّى بالرأي والحرب والمشورة، وعلى ذلك يمكن أن نقرر أنّ الأسباب التي أفضت إلي ظهور المذاهب الفقهية المعتبرة هي نفس الأسباب التي أدت إلي ظهور الجماعات الإسلامية المختلفة وإن كانت المشابهة لا تقتضي المطابقة وإنّما تقتضي وجود وجه للشبه كما يقول الأصوليون، إذ أنّ المدارس الفقهية كانت اتجاهًا علميًّا محضًا في دار الإسلام خلافًا لفصائل الحركة الإسلامية التي قامت حين قامت للدفاع عن الإسلام نفسه ممن استهدف وجوده واستئصال شأفته من الأساس.... قامت حين قامت في غياب الراية الشرعية، والدولة الإسلامية، قامت حين قامت كاستجابة طبيعية للشعور بالخطر الماحق والضياع المحدق بالأمة والمكر المحيط بها من قبل أعدائها وخصومها علي إثر نجاحهم في إسقاط الخلافة الإسلامية.... ولذا فالحركة الإسلامية اليوم في أمسّ الحاجة إلى التآزر والتآلف والتعاضد منها إلى الشقاق والتهارج والتدابر والخصام، تحتاج إلى ألاّ تجمل حيث ينبغي التفصيل، ألاّ تفرّق بين المتماثلين، وأن لا تساوي بين المختلفين، وأن تعلم أنّ معقد الولاء والبراء قد يضيق في موطن وقد يتسع في موضع آخر، يضيق حيث المذاهب العلميّة التي تعقد ولاءها على أساس السنّة والبدعة والتمحور حول اختياراتها العلميّة والمذهبية، ويتسع حيث الجماعات الإسلامية التي تعقد ولاءها وبراءها حول الإيمان والكفر، ومدى الالتزام بالجمل الثابتة في الكتاب والسنة، لأنّها تغلّب في هذه المرحلة جانب التأليف والمداراة مع أهل البدع ممن لهم انتساب مجمل بالإسلام والتزام مجمل بأحكام الشريعة الإسلامية،لا شكّ أنّ الكليّة والجزئية والإجمال والتفصيل سيكون نسبيًّا في هذه المرحلة، فما يكون كليًّا يعقد علي أساسه ولاء وبراء في موقع إسلامي، سيكون جزئيًا إذا كانت المواجهة مع الكفار والمنازعة في أصل الدين. وإذا كانت القاعدة هي هجر المخالف والتشنيع عليه في المذاهب العقدية، فإنّ القاعدة هي تألفه ومداراته في عالم الحركات الإسلامية مادامت يده في يدها في مواجهة الكفر والزندقة على اختلاف مسمّياتهما، لأنّ الأولى تعيش مرحلة البناء، والثانية تعيش مرحلة الدفاع، وإن كان البيان والتذكير فريضة ثابتة في الحالتين، إذ الفرض أنّ الأولى تتحرك في إطار إسلامي، والثانية تتحرك في جو عالماني يحارب الدين ويصادر دعوته. والأصل في ذلك كله أنّ الحركات الإسلامية اليوم بمثابة الجيوش التي ينبغي أن تنتظم فيها الأمة كلها على اختلاف مشاربها ومذاهبها لدفع فتنة الكفر ورد شرورها عن ديار الإسلام، وأنّ مالا يجوز في وقت السعة والاختيار، قد يجوز في حالة الحرج والاضطرار، وفي مقولات السلف الصالح ما يدعم ما ذهبنا إليه ويؤيده، وذلك بأنّه إذا كان الأصل هو زجر الفساق والفجار بالهجر ونحوه، فإننا قد نقبل بولاية الفاجر والفاسق في الجهاد إذا كان يسدّ ما لايسده غيره، بل نقدمه على الصالح الضعيف، لأنّ الأول فجوره لنفسه وقوته وبأسه للمسلمين، أما الثاني فتقواه وصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، مع ما تضمنته تلك الولاية من تقديمه والتزام الطاعة له، ولهذا كان من أصول أهل السنّة والجماعة الغزو مع كل بآرّ وفاجر من الأئمة، وقد سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر تقيّ ضعيف، مع أيّهما يغزي؟ فقال: القوي الفاجر؛ قوته للمسلمين، وفجوره لنفسه، والتقيّ الضعيف، تقواه لنفسه وضعفه على المسلمين، يٌغزي معي القوي الفاجر"وأوضح من ذلك وأظهر ما نُقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حواراته مع الخوارج الذين شقوا عصي الطاعة وفارقوا الجماعة بل وكفّروا أمير المؤمنين علي ومن معه من الصحابة والتابعين إذ قال لهم: لكم علينا ثلاث: أن لانمنعكم مساجد الله أن تذكروا الله فيها، وأن لا نمنعكم من الغنيمة والفئ مادامت أيديكم معنا، وأن لا نبدأكم بقتالٍ مالم تقطعوا السبيل وتسفكوا الدم الحرام" وبالفعل أنّه لم يبدأهم بقتال حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم الحرام. والشاهد في كلام أمير المؤمنين علي هو "وأن لا نمنعكم الغنيمة والفئ مادامت أيديكم معنا" فالعبارة صريحة في منطوقها بأنّ عليّا رضي الله عنه كان سيقبلهم في جيشه على مخالفتهم لمذهب أهل السنّة والجماعة في أصل كلي وقاعدة عامة قد تحزّبوا عليها ولكن كان سيكتفي منهم "الالتزام المجمل بالإسلام، والانحياز المجمل إلي معسكره.