جامعة أسوان تنظم ورشة عمل لمناهضة العنف ضد المرأة    «التنظيم والإدارة» يتيح الاستعلام عن المقبولين وموعد امتحانات وظيفة معلم مساعد مادة العلوم    رئيس البرلمان منتقدًا غياب "نواب": أقول أسماء الغائبين بصوت عال لأهمية الجلسة وليس لإحراجهم    محافظ المنوفية ورئيس الجامعة يفتتحان المعهد الفني للتمريض الجديد بمنشأة سلطان    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    تنسيق الجامعات.. 6 أقسام متاحة لطلاب الثانوية ب حاسبات حلوان    النائب أيمن محسب يوافق على مشروع الموازنة ويثمن جهود خفض الدين العام    وزير الزراعة: تعزيز العمل الإفريقي المشترك لمواجهة المخاطر والتحديات    وكيل صحة القليوبية يناقش آلية تنفيذ حملة طرق الأبواب بالتعاون مع التضامن الاجتماعي    "العال" الإسرائيلية تلغى رحلاتها حتى 30 يونيو    زيلينسكى يصل فيينا فى بداية زيارة رسمية للحصول على مزيد من الدعم النمساوى    سفير إيران لدى الكويت: لسنا بصدد توسيع الحرب ولن نتوانى في الدفاع عن سيادة بلادنا بحزم    الزمالك يكشف حقيقة عروض احتراف ناصر منسي وموقف النادي من رحيله    رئيس قطاع المعاهد الأزهرية يتفقّد لجنة امتحانات طلاب فلسطين ويحثّهم على الاجتهاد    السجن المشدد 7 سنوات لمتهم بالاتجار فى المخدرات وإحراز سلاح بسوهاج    ميكروباص ينهي حياة ممرضة وطفلة بطرق الشرقية    «استئناف المنيا» تؤيد عقوبة الإعدام شنقًا ل قاتل عروس بني مزار    اليوم .. محاكمة 15 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية في مدينة نصر    الوطنية للإعلام: أطلقنا اسم نجيب محفوظ على استوديو جديد لأنه جزء أصيل من تراث ماسبيرو    قصور الثقافة تطلق أسبوعا ثقافيا لتمكين المرأة بالمنيا    خبير ل"إكسترا نيوز": إسرائيل بدأت العدوان وإيران تحتفظ بأوراق قوة لم تستخدمها    «وحشتنا القاهرة».. إلهام شاهين تعلن عودتها من العراق    «حسبي الله في اللي بيقول أخبار مش صح».. لطيفة تكشف تفاصيل اللحظات الأخيرة قبل وفاة شقيقها    ما هي علامة قبول الطاعة؟.. أستاذ بالأزهر يجيب    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    "الصحة" تشارك في ورشة عمل حول الاستثمار فى الرعاية الصحية    هيئة الدواء تكشف معلومات هامة عن مرض النقرس .. تفاصيل    «الصحة»: «التأمين الصحي» أصدرت 19.9 مليون قرار علاج مميكن خلال العام المالي 2024/2025    المصرف المتحد سابع أكبر ممول لإسكان محدودي ومتوسطي الدخل ب3.2 مليار جنيه    شوبير يكشف سبب تبديل زيزو أمام إنتر ميامي وحقيقة غضبه من التغيير    محافظ سوهاج يدعو المواطنين للإبلاغ عن وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة بالأدلة    رئيس مجلس النواب يعلن قواعد مناقشة الموازنة العامة    المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: قطع الاحتلال للاتصالات والإنترنت جريمة مدروسة ومقصودة لعزل القطاع    الدفاعات الجوية الإيرانية تتصدى لهجمات إسرائيلية قرب منشآت حساسة    توقيع عقد ترخيص شركة «رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري»    الصحة: لا نعاني من أزمة في أعداد الأطباء.. وبدء تحسين أوضاع الكوادر الطبية منذ 2014    معلق مباراة الأهلي: الحماس سبب تريند «تعبتني يا حسين».. والأحمر كان الأفضل (خاص)    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    الدخول ب 5 جنيهات.. 65 شاطئًا بالإسكندرية في خدمة المصطافين    أسعار النفط تقفز وسط تصاعد المخاوف من تعطل الإمدادات    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    الرئيس الإيراني: الوحدة الداخلية مهمة أكثر من أي وقت مضى.. ولن نتخلى عن برنامجنا النووي السلمي    إيران تنفذ حكم الإعدام فى مدان بالتجسس لصالح إسرائيل    حالة الطقس اليوم في الكويت    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 16-6-2025.. هبوط كبير تجاوز 900 جنيه    رئيس جهاز حماية المستهلك يلتقي وزير الطيران المدني لبحث سُبل التعاون بين الجانبين    مدرب بالميراس يتوعد الأهلي قبل مواجهته في مونديال الأندية    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    عمرو أديب: كنت أتمنى فوز الأهلي في افتتاح كأس العالم للأندية    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    224 قتيلا حصيلة الهجمات الإسرائيلية على إيران منذ بدء الهجمات الإسرائيلية    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهدف الغائب فى حركتنا السياسية .. المستشار طارق البشري
نشر في المصريون يوم 19 - 09 - 2005

هناك مطلب غائب فى حياتنا السياسية لا أعرف أن حزبا أو تنظيما سياسيا أو مفكرا فى السياسة أولاه ما يستحق من اهتمام، بل أظن أن لا أحد فكر فى أهميته، ولا أحد شعر بوجوده. وهذا الأمر يتعلق بطريقة بناء جهاز الدولة وما دخل عليه أو طرأ عليه من تغييرات، ولا أحد فيمن نقرأ لهم استشعر خطرا أو أهمية لما يراد به الآن. نحن نتكلم عن الديمقراطية بوصفها حرية فى التعبير وبوصفها امكانية لبناء أحزاب وخوض انتخابات واصدار صحف وتشكيل جمعيات. أى نتكلم عنها فى تصورات قاصرة على التشكيلات الشعبية والأهلية. دون ان ننظر الى طريقة بناء جهاز الدولة والعلاقات الداخلية التى تحكم حركته وأوضاع العاملين به والموازين التى تمكن له من العمل فى اتجاه أو فى غيره. وننظر الى هذا الجهاز فى الغالب من الأحوال باعتباره هو الدولة بسيطرتها القابضة وتوحدها مع الحاكم الفرد وانه جهاز هو جزء من الحاكم مندمج به، والعجيب اننا لا نندهش من هذا الوضع وقد نعتبره من طبائع الأمور التى لا تثير تعجباً ولا نقترح أسئلة ولا نطرح حلولا وبدائل. والكثير من العاملين بالسياسة ينظرون إليه مدحاً فى أفراد فيه أو قدحاً فيهم حسب التصرفات التى يلحظونها وتمسهم، وهم فى ذلك محقون، ولكن وجه العجب ان لا أحد من أصحاب حركات الاصلاح السياسى والاجتماعى ودعاتها يفكر فى أن هذا الجهاز ينبغى أن يكون اصلاحه واحدا من أهم بنود الاصلاح السياسى الاجتماعى فى بلادنا أو اننا قبل أن نتكلم عن اصلاحه ينبغى أن ندرك ما به من مظاهر خلل واضطراب. وما هى آثار هذا الخلل فى وجوه الاصلاح الشعبيه الديمقراطية والوطنية المطلوبة وكيف يمكن أن نتعامل معه ومع رجاله وهيئاته بما يصلح من شأنه وبما يجعله ينسجم ويساعد فى وجوه الاصلاح الأخرى أى كيف نجعله جزءاً هاما من اهتمامنا ونجعله فى مقدمة ما نطالب به من اصلاح. ونحن عندما نتكلم فيما آلت إليه أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية من ترد واضمحلال، نفكر فى أزمات الصناعة والزراعة والبنوك والغلاء والبطالة والاستبداد والفساد وتهدد الأمن القومى وخفوت الحس الوطنى للإرادة الوطنية، عندما نتكلم عن ذلك، لا أظن اننا نهتم بان نتلمس ما واكب ذلك من تغيرات سلبية فى أجهزة ادارة الدولة، وما اعتراها من تفكك، وما نعانى منه من استبداد داخلى يزيد كثيرا عما يمارس من الاستبداد على جماعات الشعب وأفراده. وان ما يعانى منه الشعب من غلاء وفقر وعدم أمان، يعانى منه رجال هذا الجهاز فى غالبيتهم الغالبة غلاء وفقراً وفقدانا للأمن، كما أن ما يسخط الناس من تفريط فى السيادة الوطنية وتفريط فى الثروة الوطنية وتفكك وتحلل فى الروابط والهيئات وفى الخبرات والمهارات، كل ذلك يوجد مثيل له يثير السخط لدى القدر الأعظم من العاملين فى هذه الأجهزة. وما يقلق البشر على مصير وطنهم الذى يحبونه يوجد مثله لدى هؤلاء. ونحن نعرف جميعا ان جهاز ادارة الدولة المصرية فى مجالاته المختلفة، سواء القضائية أو العسكرية أو الأمنية أو الانتاجية أو التعليمية التثقيفية كل العاملين فى هذه الأجهزة هم ممن يعتبرون عينة عشوائية من الشعب المصري، من ساحل الاسكندرية الى اسوان، بمدنه وحضره وريفه، وهى أجهزة لا ينتمى كباره ولاصغاره الى قبائل معينة ولا الى أقليم بعينه ولا الى طائفة أو أهل مذهب. هم مصريون من عامة المصريين يدخلونه فى سن العشرين بمستوى تعليمى محدد ويتركونه فى سن الستين، والغالبية منهم لا تستقطب فى وضع طائفى أو اقليمى أو طبقى أو غيره، لذلك فهم تجتمع فيهم مشاعر الحاكم الذى يمارس السلطة والحكومة التى تمارس عليه السلطة فى ذات الوقت. ويتأثرون بكل ما يجرى فى مجتمعهم من دواعى الاحتجاج أو السخط أو الرضا حس يشيع بين الناس عامة. اللهم إلا القلة القليلة المتربعة على قمة السلطة. ومفاتيح الحكم والتى لا يزيد حجمها عن المئات أو الآلاف. ولذلك يتعين علينا أن نضم الاهتمام بهذا الجهاز ورجاله الى صميم اهتماماتنا السياسية الاقتصادية الاجتماعية. وان من الخطأ البين أن ينظر اليه بوصف مجرد جهاز دولة الحاكم الفرد ومن حوله ولا انه مجرد آلته الضاربة الصماء. بل أكاد اقول اننا نلحظ ان دوائر القمة المسيطرة فى أعلى الجهاز تزداد ضيقا وتزداد انفلاتا، وانها فى هذا الضيق والانفلات تزداد الفجوة بينها وبين هذا الجهاز ورجال فى غالبهم. وهذا أمر يتعين اعطاؤه ما هو جدير به من اهتمام وحرص. 2 ان الرأى العام السياسى فى بلدنا طالعته العديد من الخبرات السياسية فى الأشهر القليلة الماضية. وفترات التحرك السياسى النشيط هى من أهم ما تتراكم فيها الخبرات. والحركات السياسية وتياراتها وتنظيماتها ورجالها أفرادا وجماعات يكتسبون من المعارف والخبرات فى حال الحركة أضعاف أضعاف ما كان لديهم قبلها. يكفى أن كل جماعة أو فرد أو حركة تتعرف على نفسها وإمكاناتها وعلى امكانات الآخرين وتتفتح أمامهم الطرق. وان واحدة من هذه المعارف فيما أظن كان بشأن القضاة، يبدو لى أن كان الظن السارى لدى العديد ممن يمارسون العمل السياسى انهم يحكمون على القضاء أو يعلقون عليه فى ضوء بعض أحكام صدرت لم تصادف رضا الحريصين على توسيع الحريات فى القول والعمل. وموقفهم كان يستند الى حقائق ويه قدر من الصواب، ولكن الجديد الذى أسفرت عنه الأشهر الماضية أن أصحاب النظر السابق تصححت نظرتهم فى أمرين، الأول انهم عرفوا سبب هذا الذى كانوا منه يغضبون، وتحددت الأسباب فى أن ثمة نوعاً من هيمنة السلطة التنفيذية فى ادارة شئون القضاة عن طريق وزارة العدل وان هذا مما يخرج استغلال القضاء ويفضى الى ما لوحظ احيانا من ظواهر مرضية. وثانى الأمرين أن الرأى العام عرف أن ثمة حركة بين القضاء لإكمال استغلال السلطة القضائية وانها تحفر وجودها المبارك ان شاء الله منذ سنوات وسنوات وانها واضحة المعالم ومحددة المطالب ودراسة لشأن نفسها، وان وراءها رجالاً يعملون. وعلى الفور ظهرت فى الأفق السياسى مطالب القضاة باعتبارها بندا من بنود الاصلاح السياسى الاجتماعى فى بلادنا، وازدادت حركة المعارضة السياسية وعيا بشأن مجتمعها ورجاله واحتياجاته، وازدادت حركة القضاة قوة وصلابة وثقة بما يساندها به الرأى العام الاصلاحي. حدث هذا بالنسبة للقضاء فقط فى هذه الفترة الأخيرة، وهو جزء من بناء الدولة، وبعباره أدق حدق هذا أولا بالنسبة للقضاء، وقد تتلوه مجالات أخري. وأولوية القضاء هنا ترد من انه تشكيل مؤسسى فيه قدر من الاستغلال كبير وفيه ضمانات لرجاله كثيرة ولا يخضع لبناء ادارى هرمى ولا يملك كبير على صغير ما يملكه رئيس على مرؤوسيه فى أبنية ادارية هرمية مما تتشكل به المجالات الأخري. كما ان وظيفة القضاة وظيفة مفتوحة على الجمهور مما ينظر من قضايا وبما يحكم فيه، مما يجعل عمله سريع الوصول الى الرأى العام.. ويتيسر الاطلاع عليه. وعلينا أن نقدر ان مجالات العمل والنشاطات الأخرى فى أجهزة ادارة الدولة، لدى القائمين عليها فى غالبهم هموم تتعلق بأوضاعهم الذاتية والاقتصادية والاجتماعية، ولدى الجادين الأمناء منهم غيرة تتعلق بأدائهم وما يناط بهم من رسالات اجتماعية ووطنية، ولكن التشكيل الهرمى والهيمنة الفوقية تضغط الارادة وتشل الفاعلية وتكتم الصوت وتطمس روح الاحتجاج. ولكن ذلك لا يفيد انهم متوحدون مع ارادة من يتغلب عليهم فى قمة السلطة المركزية. اذا ابتعدنا عن مجال القضاء والهيئة القضائية، وهو المجال الذى يبتعد بطبيعته عن مجال السياسة وأنشطتها وحركاتها لاقتصار بحثه الدستورى والوظيفى على مجال الشرعية والحقوق. واذا نظرنا الى السلطة التنفيذية بوزارتها وهيئاتها ومجالسها، فهى تتصل اتصالا وثيقا بالسياسة وأنشطتها وبرامجها وصراعاتها، ولكن هذه السلطة فى الدساتير وفى علوم السياسة وتطبيقاتها وفى فنون الادارة، ينبغى أن تنقسم الى مجالين شديدى التميز، أولهما الوزارة بوصفها هيئة سياسة تتغير وتتعدل وفقاً لما تسائلها عليه السلطة التشريعية، وثانيها جهاز ادارة الدولة الذى أريد أن أتكلم عنه هنا. هذه أجهزة الادارة يتعين أن تكون متميزة عن جهاز رسم السياسات وهم الوزراء ومجلسهم، أنها أجهزة تنفيذ هذه السياسات، ولكن التغير ليس امرا سلبيا ولا عفويا بما هو علوم وفنون وخبرات ينبغى أن تتراكم وان يكون لها استمراريتها غير المنقطعة بما يوفره ذلك من استمرارية فى ادارة ما هو منوط بها من وجوه النشاط. وان المرونة والقابلية للتعديل والتعديل التى يكفلها تغيير الوزارات وتداول الأحزاب للسلطة، ينبغى أن يقابلها ويوازيها استمرار واستقرار فى العمل التنفيذى فلا تتضارب السياسات المتبعة مع كل دورة برلمانية. هذه الأمور على وجه التحديد كان لها تاريخ فى تشكيل مؤسسات الادارة المصرية. ومن يعود الى كتابات دعاة الاصلاح منذ ثلاثينيات القرن العشرين يلحظ اهتماما خاصا لكثيرين منهم ببناء مؤسسات أجهزة الدولة وكيف يمكن ضمان استقرار هذه الأجهزة واستغلاليته النسبية عن هيئات رسم السياسات التى تتمثل فى الأحزاب التى تتداول الحكم أو فى القيادات والزعامات السياسية التى تمسك بزمام الدولة. باعتبار أن هذه الأجهزة التى تدير شئون الدولة لا يحتاج فقط الى التوجه السياسى الذى تفرضه الأحزاب أو القيادات السياسية، ولكنها تحتاج الى علوم وخبرات ذات تراكم، وتحتاج الى قدر من الاستقلال يحفظ لها امكان مراعاة الأوضاع العملية وغيرها. والسياسى يختار التوجه ويزكيه ويأمر به، ولكن أجهزة ادارة الأمور تنظر فى كيف يمكن التحقيق الفعلى لهذه التوجهات المأمور بها وبصواب أول الصواب أن يتميز كل جانب من الآخر برجاله. ونحن نذكر كتاب الادارة الحكومية لابراهيم بيومى مدكور ومريت غالى فى الاربعينيات، ونذكر التوجه ذاته مما كتب من غيرهم، ونذكر أنه كان مطلبا إصلاحيا أن يقوم النظام الادارى على أساس أن قمته هو ما بس وكيل الوزارة الدائم يكون صنواً للوزير، لأن الوزير صاحب توجهات سياسية تجئ ويذهب وتتعدل توجهاته، بينما هذا الأكبر والدائم فهو المدير الحقيقى لأجهزة الوزارة بما يتحتم عليها ان تحمله اداراتها من خبرات علمية وتراكم للمعارف والفنون التطبيقية واقتراح مشروعات تنموية وجمع للمعلومات وغير ذلك. ونحن نذكر مثلا ان مشروعا مثل مشروع السد العالى كان موجودا فى وزارة الرى وزارة الاشغال وقتها من قبل أن نعرف عنه شيئا ناهيك عن مؤسسات العمل العسكرى والأمن القومى وغيرها فى حفظ قوام الدولة ويسهر على أمن الناس. واذا عدنا الى كتابات الداعين للاصلاح ممن اهتموا بهذا الشأن، نلحظ مثلا أن ممن دعوا إلى إنشاء مجلس الدولة قبل إنشائه فى 1946 بعشر سنوات، كان من أهم ما دللوا به على أهمية إنشاء هذا التشكيل القضائي، هو حفظ القدر المناسب من الاستقلالية الإدارية والتنظيمية لأجهزة إدارة الدولة، لكى تتمكن من تركيم خبراتها وتوفير القدر المناسب من الخبرات المستمرة اللازمة. وليس أفعل فى توفير القدر المناسب من الاستقلالية من تعزيز الضمانات الخاصة بالتشكيل المؤسسى وإدارته الذاتية، وتعزيز الضمانات الخاصة بالعاملين به وكفالة حقوقهم وتأمينهم من الخوف على وجودهم وخضوعهم بالتساوى للقواعد الموضوعية. إننا نعرف جميعا أن الجوع مثلا يفقد الإنسان حريته واستقلاله ولكننى أكاد أقول إنالخوف يكون أفعل وأمضى فى إفقاد الإنسان حريته واستقلاله. الخوف أقسى من الجوع فى ظني. ونحن نذكر أنه كان من أهم ما قامت به وزارة الوفد فى سنة 1951 أنها أصدرت أول تقنين جامع ينظم أحكام العاملين بالدولة من ترشيحهم للتعيين إلى حين انتهاء خدماتهم. وهو القانون رقم 210 لسنة 1951 وكان مشهودا وبقى حتى الستينيات ثم حلت محله قوانين أخرى تزيد من ضمانات الموظفين وتكسب علاقتهم بالدولة استقرارا وموضوعية. وأن مجلس الدولة قام فى قضائه على مدى عمره بتعميق هذه الضمانات. كما أن ثورة 23 يوليو وإن كانت قيدت الحريات العامة وجمعت السلطات وركزتها فيما هو معروف وغير خاف، إلا أنها بالنسبة لجهاز إدارة الدولة عملت على منح العاملين فيه من الضمانات الكثير، وكان هذا مما أكسب هذه الأجهزة التنفيذية وعملها الفنى فاعلية فى العمل، وكانت أحكام مجلس الدولة التى انكمش اختصاصها بالنسبة لقضايا الحريات العامة، فإنه اتبع سياسته القضائية والافنائية فى دعم ضمانات العاملين، فيما لا يتعلق بالنشاط السياسى الصريح المعارض لذلك ورغم كل السلبيات المعروفة، أمكن
لهذا الأجهزة الفنية والتنفيذية أن تدير قناة السويس مثلا بعد تأمينها وأن تبنى السد العالى وأن تنشئ المصانع وتديرها وتستصلح الأراضى الزراعية وتزرعها وتنشئ شبكات التوزيع والتجارة بقدر لا بأس به من الفاعلية. وحتى الجيش المصرى الذى كان يشكو ظاهرة المشير عبدالحكيم عامر وما أشاع من سلبيات قاتلة، فإنه بمجرد انتهاء هذه الظاهرة بعد هزيمة 67 أمكن لهذا الجيش بقياداته الفنية والعسكرية أن تتبنى القوات المسلحة فى ست سنوات بما استطاعت به أن تحقق نصر 1973. كان الخوف موجودا ولكنه كان خوفا سياسيا يتعلق بالنشاط السياسي، ولكنه لم يكن خوفا متعلقا لعلاقة العاملين فى أجهزة الدولة بالنسبة لشئون عملهم الفني. 4 لا أريد أن استطرد فى السرد التاريخى لأوضاع أجهزة إدارة الدولة فى مصر، مدنية كانت أو عسكرية. ولكننى مع ذكر الأمثلة السابقة التى قصدت بها بيان أهمية الموضوع، أود الآن الإرشادة والوضع الحالي، واتصور أن هذا الوضع الراهن تبلورت نظمه وأوضاعه من نهايات الثمانينيات تقريبا، وأن شئنا التبلور القانونى والتشريعى له مستجداتها لم تكن صدفة أن يصدر قانونان فى سنة واحدة يراد بهما دعم السيطرة الفردية لقيادة الدولة المركزية على المناصب الكبرى كلها فى مصر أى ما يعرف بالمناصب القيادية فى الوزارات والهيئات العامة والمصالح وغيرها، وكذلك فى شركات القطاع العام وتشكيلاته المختلفة. فصدر القانون رقم 5 لسنة 1991 بشأن القيادات فى الوظائف المدنية فابتدع نظاما جديدا، وهو أن الوظائف القيادية فى أجهزة الدولة المدنية يكون التعيين فيها عن طريق المسابقة من داخل النسق الوظيفى للهيئة المعنية أو من خارجها، ويكون هذا التعيين لمدة ثلاث سنوات، والوظيفة القيادية هى الوظيفة غير التكرارية، أى التى ليس لها مثيل وليست متعددة فى الجهة ذاتها. والمسابقة تعنى إسقاط حق الكفء الأقدم من رجالها فى توليها، لأن الحق فى الترقى للوظائف الكبيرة فى الدولة كان حقا لمن جمع بين الكفاءة والأقدمية من العاملين فيها، وذلك حسبما ضمانات القانون ومبادئ القضاء التى كانت مستقرة، فجاء القانون 5 لسنة 1991 ليهدر هذا والحق والآمر الآخر فى هذا القانون أن البقاء فى الوظائف القيادية صار مؤقتا لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات ثم تجدد. صيغ الأمر على أساس أن ذلك هو الإدارة الحديثة وأنها موجبات المرونة وتجديد الدم فى الوظائف والقضاء على البيروقراطية وإطلاق الحيوية، وقدمت نظريات فى علم الإدارة لتبرير ذلك، ولكن إيا كان صواب كل هذا الكلام النظري، فقد كان من قبيل الحق المراد به الباطل لأن الأثر الوحيد الذى ترتب على تطبيق القانون أنه أهدر حقوق هذه الفئة من التكنوقراط ذوى الخبرات والمعارف وأهدر عنصر الأمن والاطمئنان الذى كانوا يعتمدون عليه فى تقديم خبراتهم وإدارة الشئون الفنية للمشروعات التى يقومون عليها. ونحن فى عملنا عايشنا هذا التطبيق من خلال هيئات الفتوى والقضاء فى مجلس الدولة، ومن خلال المجالس واللجان المشتركة التى كنا نشارك فيها مع هؤلاء، وكان الملاحظ أن هذا القانون نسف نسفاً القدر النسبى والمعقول الذى كان يتمتع به رؤوس العمل الفنى وذوو الخبرات والمعارف المتراكمة عبر السنين، ما كانوا يتمتعون به من اطمئنان إلى مراكزهم. وقد لا يكون الكثير منهم أقصى بعد ذلك، وقد لا يكون الكثير منهم فقد حقه فى الترقي، ولكن القدر المتيقن أن علاقتهم بمن فوقهم من وزراء تغيرت تماما، وتحولت من شبه زمالة إلى علاقة تبعية أن أساس الزمالة فى العمل هو علاقة الندية، أى أن الآخر لا يملك بسهولة تعيينى أو إقصائى فإن ملك ذلك من أمرى فقد ملكتى لأنى لم أعد استمد حقى ووضعى من القانون والأعراف ذاتها التى يستمد منها هو حقه ووضعه، ولكننى صرت استمد حقى ووضعى من مشيئته ورضائه. وآذكر أننا فى عملنا فى مجلس الدولة فى الإفتاء والقضاء، حاولنا فيما يعرض علينا من حالات وأسئلة ومشاغل قانونية، حاولنا أن نفتق من هذ القانون ومن النظام القانونى الأشمل للعاملين بالدولة ما يعيد الحد الأدنى من الضمانات، فلما أدركت الأجهزة الإدارية العليا هذا الجهد من جانب النشاط الإفتائى لمجلس الدولة، حبست مشاكل تطبيق هذا القانون عن مجلس الدولة ولم تعد تقدم إليه أى استفتاء بشأنه سنين عددا، ليبقى تطبيق هذا القانون سلاحا باترا فى أيدى الوزراء على كبار رجال وزرائهم وهيئاتهم الذين يفوقونهم خبرة وعلما، والمعروف أن الوزراء فى بلدنا يتبع غالبهم رئيس الجمهورية بغير ضمان لهم فى عملهم إلا رضاه، فصار الآخرون كذلك. الحديث متصل ------ صحيفة العربي المصرية المعارضة في 19 -9 -2005

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.