يقف العلمانيون من اللجنة التأسيسية موقف الخصم اللدود، المتربص من أجل إعاقة أعمالها والانتهاء من وضع مشروع الدستور، الذي على أساسه تتشكل مؤسسات الدولة لتلج الدولة فترة البناء والاستقرار، وكانوا يعلقون الآمال ويرقبون صدور حكم محكمة القضاء الإداري بجلسة الثالث والعشرين من أكتوبر الجاري في موضوع ثلاثة وأربعين طعنًا قدمت لحل الجمعية التأسيسية، لكن الحكم صدمهم إذ قضت المحكمة بوقف الفصل في موضوع تلك الدعاوى، وإحالتها للمحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستورية القانون 79 للسنة 2012م، بعد أن سلكوا كل سبل التحريض والطعن في اللجنة وأعضائها من التيار الإسلامي، وتفزيع المجتمع من دولة دينية يدعون أن الدستور القادم يضع لها الأسس والقواعد. ومبعث انزعاجهم ليس الصالح العام المتمثل في مدنية الدولة، ولا الانتصار لقضايا المجتمع والحريات العامة وبخاصة قضايا المرأة، ولكنه الجُب السحيق الذي تتوارى فيه مبادئهم وتطلعاتهم الرامية إلى تنحية الإسلام شريعة وعقيدة عن الشعب. فبمجرد أن تم تثبيت المادة الخاصة بمرجعية الشريعة الإسلامية كمعيار لكل ما يُسن من قوانين ولوائح، وبعد أن ملأوا الأفاق سبًا وشتمًا واتهامًا بالظلامية والوهابية والأخونة، حاولوا نصب الشُرك واصطناع الفخاخ من أجل تفريغ المادة عن مضمونها بعقد الخصومة بين مصطلحي (مبادئ الشريعة) و(أحكام الشريعة). فمنهم من نادى باعتبار مبادئ الشريعة وليس أحكامها هي المرجعية لأنظمة وقوانين الدولة، لحاجة في النفس، باعتبار كلمة مبادئ فضفاضة وتحتمل التأويل بين ما هو قطعي الدلالة وما هو ظني، أما مصطلح الأحكام فهي تعني القواعد الملزمة الرامية إلى حفظ الضروريات الخمس والتي تعني مرحليًا تطبيق الحدود وإخضاع النظام القانوني في الدولة بالكامل لمرجعية الشريعة. ثم أصروا على إضافة مادة تكفل حق غير المسلمين من اتباع الشرائع السماوية الاحتكام لشرائعهم في شئونهم وأحوالهم الشخصية، ثم كانت الفضيحة الكبرى باعتراض العلمانيين بصدد باب الحقوق والحريات على نص المادة 68من مشروع الدستور والتي تؤكد التزام الدولة باتخاذ كافة التدابير التي ترسخ المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، والتي زيد فيها "دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية" مراعاة لقضايا الولاية والقوامة وفرائض المواريث. قامت الدنيا ولم تقعد بسبب ذكر الشريعة في هذا الموضع؛ لأنهم لا يريدون أن تكون الشريعة الإسلامية هي الضابط للحريات، وإنما يريدون أن تكون اتفاقية الأممالمتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والمسماة باتفاقية "سيداو" هي المرتكز الذي تنطلق منه مواد الحريات في الدستور المصري، وهي اتفاقية ظاهرها الرحمة وباطنها الانحلال. والاتفاقية تلبي مبتغاهم من الدستور بتقنين الحرية المطلقة المنفلتة بلا كوابح، والتي تسوي مطلقًا بين المرأة والرجل في كل شيء، وبدون ترك أي مساحة للاختلاف الفطري بينهما، فهم يسعون إلى تكريس فكرة التماثل بين الرجل والمرأة، وليس المساواة في الحقوق، بما يعني إلغاء القوامة والولاية للرجل على المرأة زوجة أو ابنة، فيكون لها أن تتزوج بإرادتها المنفردة دون ولي، وأن تطلق نفسها متى شاءت، وأن تقيم علاقات خارج إطار العلاقة الزوجية أو ما يعرف "بالمساكنة"، ولها في المواريث مثل حظ الرجل، ولها أن تقترن بمثيلتها دون زجر أو استهجان، واعتبار تربية الأبناء وظيفة اجتماعية يشترك فيها الرجل مع المرأة، بأن ينقطع عن العمل لرعايتهم فضلاً عن رفع سن الزواج وعدم الاعتراف بالزواج الشرعي دون السن المحدد. هذا الدستور الذي يريدون ! بصرف النظر عن ملاءمة ذلك لمجتمعنا من عدمه، وعندما لا تتحقق رغباتهم، فالمجتمع يجنح إلى الدولة الدينية المتخلفة الرجعية، التي تبيح الاتجار بالبشر وانتهاك حقوق النساء والأقليات في الوقت الذي لا يتورعون فيه عن المطالبة بترخيص بيوت الدعارة لممارسة الحرية! هكذا يريدون والمجتمع يرفض، ولا سبيل لهم إلا الاستجارة بالخارج والتشبث بأستار اتفاقية "سيداو"، ليجعلوها أعلى مرتبة في قوتها الملزمة من مصادر القانون الداخلي للدولة، وهي الدين والعرف والتقاليد اتساقًا وانسجامًا مع فكرة العولمة في كل مناحي الحياة، وفرض قيم وتقاليد الغرب على باقي مجتمعات الكون دون مراعاة التنوع الثقافي والديني لتلك المجتمعات، وهو ما يحكم بالفشل الذريع على مسعاهم لضرب القيم والمجتمع وتفكيك لبناته. والله الموفق