رغم كل شيء نال الرئيس المصري حسني مبارك ستة ملايين صوت وبضعة آلاف، اي 88% من مجموع اصوات المقترعين الذين بلغ عددهم 8 ملايين من اصل 32 مليونا مقيدين في جداول الناخبين. أي انه حصل فعلياً على 20% من اصوات المقيدين، اي الناخبين الافتراضيين. ولو ذهبنا في التحليل الى آخره كما فعل عبد الحليم قنديل في صحيفة "العربي" لوجدنا كما وجد، انه لو أضيف الى هذه الاصوات ال16 مليون مصري آخر الذين لهم حق الانتخاب ولم يستحصلوا على بطاقة ولم تدرج اسماؤهم في سجلات المقيدين، يكون الرئيس المصري قد حصل عملياً على 12,5% من مجموع اصوات الذين لهم حق الانتخاب والذين نظراً للامبالاتهم، اما لم يذهبوا الى صناديق الاقتراع واما لم يكلفوا انفسهم عناء الحصول على بطاقة انتخابية، وهذه اللامبالاة مردها كما يقولون ان النتيجة محسومة سلفاً وان صوتهم لن يغير شيئاً "كلهم زيّ بعض". يبقى ان ستة ملايين وبضعة آلاف اقترعوا لمصلحة الرئيس المصري، منهم من اقترع تحت ضغط ارباب عملهم في القطاعين العام والخاص كما لاحظت معظم صحف المعارضة الصادرة بعيد العمليات الانتخابية، "التجمع" و"العربي" خصوصا. كما اقترع لمصلحته اولئك المستفيدون فعلياً من النظام والمدافعون عنه. بالاضافة الى هؤلاء الراغبين والمتحمسين والمستفيدين او المكرهين (موظفين وعمالا) ذهب عدد كبير من المصريين طوعاً الى صناديق الاقتراع، وفق مشاهداتنا الشخصية، وينتمي معظم هؤلاء الطائعين الى الفئات الفقيرة وحتى المعدمة، وهذا ما خبرناه من خلال اسئلة طرحناها عليهم، ومن بينهم عاملون في مؤسسات صغيرة، وعمال نظافة وعاطلون عن العمل وغيرهم، ومن يتقاضى أجراً منهم يراوح بين 50 و80 دولارا شهرياً فقط لا غير. فما الذي يدفع الناخب المصري الى قبول الامر الواقع؟ والحال، رغم كل الاحاديث الاعلامية عن آليات الترغيب والترهيب والرشوة والابتزاز، هناك من اقترع ب"ملء ارادته" للرئيس حسني مبارك دون ان يكون من اصحاب الاموال والثروات او الموظفين المستفيدين، بل من عامة الناس، العمال الصغار، او اصحاب مهن حرة صغيرة او عاطلين عن العمل. ذهبوا مختارين الى صناديق الاقتراع، وتدور حججهم حول نظرية "اللي شبع" و"اللي تعرفه خير من اللي ما تعرفوش". احدهم قال لي: "ناس كثير مع الريس بيقولوا عنهم انهم سرقوا الملايين والمليارات... لو حدّي ثاني مسك البلد حيجيب ناس ثاني تسرق من اول وجديد... يبقى مين الاحسن؟" وآخر كان يستمع للحوار تدخل قائلاً "سيبك يا استاذة من السرقة، إحنا ما نعرفش حد غير حسني مبارك واللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش" و"يمكن اللي يجي يبوّظ البلد اكثر ما هيا بايظة" وثالث يعمل نادلاً في احد الاوتيلات الكبرى، صاغ رأيا لافتاً سمعته فيما بعد اكثر من مرة، ويتعلق بالرغبة في العيش بسلام والتخوف من التشدد الاسلامي: "احنا مش عايزين حدّ يعلمنا حرب، خلاص بقا، وبعدين الاسلاميين عايزين يمنعوا المشروب واحنا بلد سياحي"... وقد نجد بعض جذور هذا القبول في ثقافة الاستفتاء المديد، كما في ضعف الاحزاب البديلة المحاصرة اعلامياً وسياسياً وشعبياً، بفعل قانون الطوارىء المعمول به منذ 1981، كما في ثقافة الخوف من المجهول، والخوف من الرفض والمغايرة، ولكننا اذا بحثنا في لا وعي المصري، في التصورات والمفاهيم المتوارثة حول ادوار الحاكم والمحكوم، في بيئة عرفت تاريخياً شتى انواع الاستبداد، والتي يعبر عنها بأمثال وأقوال شعبية، نتفهم هذا الميل الى القبول بالأمر الواقع والإذعان له. نجح الاستبداد المزمن في تشويه وجدان المصريين وأفكارهم فصاروا قانعين باوضاعهم مهما كانت سيئة، غير واعين لحقوقهم ويعيشون تدني مستوى عيشهم كقدر، وهذا ينطبق على شرائح واسعة من الشعوب العربية. هذا التوجس في علاقة المصري المحكوم بحاكمه تتجذر في مواويل وامثال ونكات مصرية اقتبسناها من مقالة لعزة عزت نشرت في "العربي" في 11 ايلول عدد 1976 وانطلقت فيها من الفرضية نفسها مستشهدة بالامثال الآتية: "اللي مالوش كبير يشتري كبير". وهذا مثل يستعمل ايضاً في لبنان. و"اللي تيجي له المصائب يدق الابواب العالية"، أي ان المصري يعتقد ان رضى الحاكم ومحبته لأحد من المقربين منه تسمح له بكثير من الامور غير المقبولة. وهو يدرك بحدسه ان "اللي له ضهر ما ينضربش على بطنه". ثم ان مصر لم تحكم منذ عام 232 قبل الميلاد من قبل أبنائها. فمنذ حكم الاسكندر الاكبر وحتى ثورة يوليو تعاقب عليها الاغريق والبطالمة، ثم الرومان والفرس والعرب والمماليك والترك العثمانيون. وفي المقابل ادرك المصري ان للحاكم هيبته وخشيته لذلك فهو يرى ان "الملك من هيبته يتشتم في غيبته" مما يذكر بالمثل اللبناني "الإيد اللي ما فيك الها بوسها ودعيلها بالكسر". وقد عبر بأمثاله عن قهر هؤلاء الحكام وقلة حيلته في مواجتهم مختاراً التملق فقال: "الحياة سنّة ومسح الجوخ فرض" وعندما يكتشف المهانة التي يتعرض لها المتملق يقول: "السلطان من لا يعرف السلطان". وهم يعوضون عن اضطرارهم لمراهنة الحاكم بسلاطة اللسان وبكم من النكات والانتقادات تواكب كل مرحلة. اقترع المصريون لمصلحة النظام، اما لاستفادتهم منه، واما لاقتناعهم به، واما لتعرضهم لابتزازات ارباب عملهم في القطاعين العام والخاص، واما طبقا لنظرية "اللي تعرفو احسن من اللي ما تعرفوش" او "اللي شبع احسن من اللي ما اخدش حاجة" او "مش عايزين حرب بقا" او "الاسلاميين دمروا السياحة" ، او لغياب بدائل حزبية معروفة لدى الناس او لرسوخ ثقافة الاستفتاء، او لانهم لا يثقون بجدوى اصواتهم ازاء سطوة النظام وفقدان الثقة بأية سلطة راهنة او قادمة، وربما لاسباب اخرى. ولكن علوم الانتربولوجيا تحفر عميقاً في الذاكرة والوجدان الشعبيين لتكشف الغطاء عن آليات لا واعية تبرر وتشرح الانصياع للسائد وللقوي وتخشى التفرد والمغايرة. على القارىء اللبناني ان يكتشف اوجه الشبه بين السلوكات الانتخابية للناخبين المصري واللبناني، فالتجارب التاريخية تتقاطع في بعض المحطات بين الشعبين، وزمن الولاة والامراء ليس ببعيد. ----- صحيفة النهار اللبنانية في 24 -9 -2005