كثر الكلام هذه الأيام حول مبادئ الشريعة الإسلامية كما وردت في المادة الثانية من الدستور وهل تبقى كما هى؟ أم تستبدل بكلمة أحكام الشريعة؟ أو نقول الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع بغير مبادئ ولا أحكام؟ وهذا الخلاف منشؤه من التفسير الذي ذهبت إليه المحكمة الدستورية لجملة مبادئ الشريعة الإسلامية حيث قصرتها على النصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة دون غيرها، ومن ثم فإن المعنيين بتطبيق الشريعة يتخوفون من هذا التفسير وسريانه في المستقبل حيث تبقى الأحكام الشرعية حبيسة الكتب والمؤلفات دون أن تتحول إلي واقع في حياة الناس كما يتخوف الليبراليون كذلك من كلمة أحكام الشريعة لأنها - من وجهة نظرهم- ستؤدى إلي إقامة الحدود وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف وما سوى ذلك والأمر يحتاج إلي بعض التنبيهات لأن الضغط في اتجاه معين - بطريقة معينة- قد يؤدي إلي خسارة كبيرة لا تستدرك بالنسبة للتيار الإسلامي خصوصًا لأن التيارات الأخرى ليس عندها ما تخسره فالخسارة بالنسبة لها ربما تتلخص فى فوات بعض المصالح الخاصة دون النظر في أيديولوجيات لأن الخلاف واضح أنه خلاف مصالح لا يخلو من النفعية والانتهازية وألخص هذه التنبيهات فيما يلى: أولاً: كلمة "مبادئ" ليست مصطلحًا شرعيًا وإنما هو مصطلح قانوني بامتياز قد يقابله في الشريعة مصطلحات أخرى مثل قواعد أو أصول ولذلك تجد كلمة مبادئ تكاد تسيطر على المنطق القانوني تمامًا بداية من مبدأ الفصل بين السلطات - مثلاً- ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة والمبادئ العامة للقانون ومبدأ المساواة ومبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون ومبدأ المتهم برئ حتى تثبت إدانته ومبدأ التقاضي على درجتين حتى نصل إلي المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة فكلمة مبدأ تعني القاعدة القانونية أو الأصل القانوني الذي يندرج تحته فروع كثيرة ولا عحب في ذلك خاصة إذا علمنا أن من وضعوا الدستور هم من الساسة والقانونيين الذين يسيطر على عقولهم المنطق القانوني بمصطلحاته. وهذا التفسير لن نجد غيره لو قلبنا بصرنا في كل اتجاه، فما المانع أن ننظر في كلمة مبدأ أو مبادئ في المنطق القانوني وننظر في تفسيرها عند أهلها ونقيس عليها ما يشابهها من المصطلحات الشرعية مثل كلمة قواعد أو أصول الشريعة وغير ذلك دون الدخول في مصادمات لا طائل من ورائها إلا تعطيل الدستور الذي ينتظره الناس على أحر من الجمر. ثانياً :المحكمة الدستورية العليا الغالب عليها أنها سلطة سياسية أكثر من كونها جهة قضائية لذلك فإن هناك بعض المسائل السياسية الشائكة التى لا تجعلها تتبع النسق القانوني في قضائها وهى تنظر فيها وإلا فإن وجودها ذاته قد يكون في وقت من الأوقات عرضة للخطر ومن ثم فإنها قد تتفادى هذا الخطر ببعض التنازلات أو ما يسمى بالمواءمات السياسية كما فعل مجلس الدولة الفرنسي حيال نظرية أعمال السيادة وغيرها وإلا فإن الرقابة القضائية الصارمة على دستورية القوانين ستحدث مصادمات في بعض الأحيان مع السلطة التنفيذية المستفيد الأول من هذه المواءمات، وإن كانت هذه المسائل يراها البعض أنها تعد فى نطاق الإكراه الشرعي هذا إبان وجود الرعيل الأول من قضاة المحكمة الذين كانوا يتمتعون بكثير من الاستقلال وقوة الشخصية ولكنهم كانوا يوائمون بين الدور الذي تلعبه المحكمة وبين خطر إلغائها أما في السنوات المتأخرة فقد صار وضع أغلب قضاتها مزريًا. ثالثًا: يعد التفسير الذي انتهت إليه المحكمة - في ذلك الوقت- رغم الضغوط الهائلة عليها تفسيرًا جيدًا ومناسبًا لحالة الإكراه الشرعي خاصة وأن أحدًا ما كان يطمح أن تناقش قضية تحكيم الشريعة -آنذاك- أمام أكبر محكمة قضائية في مصر فقد كانت هذه هي البداية التي فتحت الباب وشجعت كثيرًا من القضاة والباحثين القانونيين وغيرهم على الكلام في تطبيق الشريعة فى بعض المسائل وقد ارتكزوا على هذا القضاء ومع ذلك ما كانت السلطة التنفيذية تقوم بتنفيذ هذه الأحكام. رابعاً: تغير التفسير بتغير الواقع السياسي بعد الثورة: ذكرنا آنفاً أن التفسير السابق لمبادئ الشريعة من قبل المحكمة الدستورية كان وليد الواقع السياسي الذي كانت تعيشه البلاد وتسلط السلطة التنفيذية على كافة السلطات الأخرى في الدولة ومن ثم فإننا نرى أن هذا التفسير سوف يتغير وذلك لأن نظرة المجتمع المصري للشريعة الإسلامية اختلفت واهتمام الناس بها ارتفع كثيرًا عن ذي قبل، فضلاً عن تغير الحال بالنسبة للسلطة السياسية - وهو الأهم- وصعود التيار الإسلامي إلي سدة الحكم ولذلك نرى بقاء التفسير من سلطة المحكمة الدستورية - وليس الأزهر- هو الأفضل ولأن الواقع سيفرز تفسيرًا جديدًا لمبادئ الشريعة الإسلامية بدلاً من الدخول في مصادمات لا طائل من ورائها إلا زيادة الاحتقان في المجتمع وتصيد الأخطاء ولأننا في بداية مرحلة جديدة وحساسة تحتاج إلي فهم وتبصر بعواقب الأمور خاصة إذا كان الوضع الحالي ينذر بصراع مجتمعي قد يؤدى إلي ضياع فرصة ذهبية لإقامة المجتمع على أساس من شرع الله عز وجل. خامسًا: الضمانة الحقيقية للمشروع الإسلامي: يعد المجتمع المسلم هو الضمانة الحقيقية للمشروع الإسلامي خاصة من حيث البقاء والاستمرارية وليس النصوص المكتوبة ولا يخفى على أحد حالة الاحتقان الشديد بين التيار الإسلامي والتيار الليبرالي وأن ما يسعى التيار الإسلامي لبنائه في الدستور وغيره من القوانين سيهدمه التيار الليبرالي إن تمكن من ذلك في مرحلة لاحقة - لاسمح الله- مالم تكن هناك قاعدة مجتمعية واعية ومدركة لأهمية تطبيق الشريعة وخطورة تنحيتها إذًا فالضمانة الحقيقية في ظل هذا الوضع الشائك هي المجتمع المسلم وليس النصوص المكتوبة مع أهميتها هذا المجتمع الواعي والمدرك لأهمية وحتمية أن تحيا الأمة بالشريعة المجتمع الذي يمنع من وصول خصوم الشريعة إلي سدة الحكم خاصة وأنهم نخروا في جسد الأمة وفي عقول أبنائها في خلال السنتين الماضيتين حتى أصبحوا مهيئين للعودة في أي وقت ولا أدل على ذلك من انتخابات الرئاسة الأخيرة . إذًا الشعب هو الضمانة الحقيقية لتطبيق الشريعة والعيش في ظلها ولا يكون ذلك إلا إذا تعلم ذلك الشعب الشريعة وفهمها وشعر بأهمية التحاكم إليها ومن ثم فهو يحبها ويضحي من أجلها ويقف هو في وجه خصومها ولا يكون ذلك أبدًا إلا بتعليم الناس الشريعة وبيان محاسنها وهذا ما ذكرناه في بداية العمل السياسي الإسلامي بعد الثورة وأن التيار الإسلامي يبدأ بالتعليم ويستغل هذا الظرف المناسب ليظهر للمجتمع بمظهر الحريص عليه المحب له فإذا ما تعلم الناس الشريعة وزالت حالة العجز العلمي انتقلنا إلي تقنين الشريعة وتطبيقها أما أن ينظر الناس إلي التيار الإسلامي وهو يقاتل على السلطة بل ويصارع بعضه بعضاً فإن هذا يعرض المشروع الإسلامي برمته للفشل في هذه المرحلة ولن تكون للنصوص الدستورية أية قيمة لو أتى الشعب – اختيارًا - بأمثال البرادعي أو صباحي أو ما يشبههما ولن يستطيع التيار الإسلامي أن يجابه إرادة الشعب أو يقاومها ومن ثم فإننا ليس أمامنا إلا الشعب إذ هو الضمانة الحقيقية لتطبيق الشريعة بل وحمايتها ونحن مازلنا في غفلة شديدة عن هذه المسألة والله المستعان. - كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر