الفحيح هو صوت الأفْعَى، وتستخدم صيغة منه لوصف أنواع من الطيور لها أصوات تشبه الفحيح، لذلك تُصَنّف فى علم الطيور تحت اسم: "الأفْحيحيَّات".. ولكن المشكلة فى كلمة الفاختة لأنها غير مستخدمة فى الخطاب المعاصر.. وهي تعنى "الكذّاب".. وللتأكد أنظر فى معجم تاج العروس فستجد أن كلمة "فَخَتَ" تعنى كَذَبَ.. وقد جاء في الأمثال العربية "أكْذَبُ من فاختة"، والمقصود بالفاختة في هذا المثل هو حمامة تَحكى عنها قصة طريفة؛ فالعرب قد استطاعوا أن يميِّزوا فى صوت هذه الحمامة عبارة: "هذا أَوَانُ الرُّطَبِ" تُرَدِّدُها طول الوقت، حتى وإن لم يكن قد ظهر طَلْعُ النخل الذى يحمل الثمار بعدُ.. ومن هنا نُسِبَ الكذبُ إلى هذه الحمامة التى قال فيها الرّاجِز: أكذب من فاختةٍ ** تقولُ وسْط الكَرْبِ ** والطَّلْعُ لَمّا يَطْلُعِ *** هذا أوان الرُّطَبِ. وروى الدميري حكاية أخرى لا تقل عنها ظرْفًا، حيث جاء في كتابه "حياة الحيوان...": "إن كلام العُشَّاقِ -الذين أفرط حبُّهم- يُستلذّ بسماعه، ولا يُعَوَّلُ عليه" واستشهد بهذه القصة: "يُحكى أن فاختة كان يراودها زوجها، فمنعته نفسها، فقال لها: ما الذي يمنعك عني..؟ ولو أردْتِ أن أقلب لك مُلك سليمان ظهرًا لبطْن لفَعَلْتُهُ لأجلك..؟ فسمعه سليمان عليه السلام، فاستدعاه وقال: ما حَمَلَكَ على ما قلتَ..؟ فقال: يا نبي الله إني محبٌّ، والمحبُّ لا يُلام، وكلام العُشّاق يُطْوَى [فى الصّدْرِ] ولا يُحْكَى.. تلاحظ فى هذه الحكاية أن مشتقّات "فَخَتَ" قد استخدمت على وجوه شتى: فهى فِعْلٌ مرةً، واسمٌ مرةً أخرى، وصِفَةٌ مرةً ثالثة.. وأن "الفاختة" اسْتُعْمِلَت صفةً لحمامة كذوب، واسمًا لامرأة من عصر النبي سليمان.. فى سياق خبر مثير، يستحيل التحقّق منه.. حيرة خرجنا بها من أسطورة عربية قديمة، ولكنها حيرة مُستساغة لأنها وردت فى إطار من الفكاهة المستملحة، أما الحيرة التى تعصف بعقول الناس وتسبب لهم الدوار العقليّ فمرجعها إلى اللغط المستعر الآن على الساحة السياسية، وهو لغط ينطوى على ثلاثة موبقات: الأكاذيب القارحة، والعبثية المقيتة، والنوايا الخبيثة.. والهدف غير المعلن لكل هذا هو إثارة الفوضى والغوغائية، وإيقاع الفتنة، وتدمير السلطة المنتخبة والقضاء على كل أمل فى التغيير.. وإليك هذه الوقائع دليلاً على ما أزعم: أولاً- فى الوقت الذى كانت صدور الجماهير تتأجج غضبًا على الحكم القضائي الصادم بتبرئة المتهمين فى موقعة الجمل، وعلى النائب العام الذى اعْتُبر مسئولاً عن تزييف كل القضايا التى بُرِّء فيها المتهمون بقتل الثوار، لأنه سمح بتقديم قضايا للمحاكم مفرّغة من الأدلة، كان المُعتَقد فى هذا الوقت الملتهب بالغضب الشعبي أن يخرج الجميع للاحتجاج على الأحكام الصادمة وعلى النائب العام، ولكننا نفاجأ بكلام مراهق سياسي يقول إنه وقبيلته الشبابية من اللبراليين واليساريين قد خرجوا لهدف آخر: لمحاسبة مرسي و إلغاء تأسيسية الدستور.. ورأينا على الطرف الآخر "إخوان مسلمين" تصوروا أن اللبراليين والشيوعيين يشاركونهم المشاعر الوطنية المتأججة، ومن ثم وصلوا إلى استنتاج ساذج وهو أن هناك هدفًا مشتركًا سيتآزر الجميع على تحقيقه.. ألا وهو التخلص من النائب العام المكروه من الجميع...!.. لقد أخطأ الإخوان خطأً فادحًا بنزولهم إلى الشارع غافلين عما يُسْتَدْرَجون إليه من مشاكل، سيختلط فيها الحابل بالنابل، وستقوم أجهزة الإعلام الفلولية بوضع السخام على رؤوسهم، وتنسب إليهم زورًا كل ما حدث من اضطرابات.. لقد فعل الإخوان خيرًا بانسحابهم مع أقل الخسائر، ولكن دخولهم المعمعة أصلاً بدون اتخاذ الحذر والتدابير التى اشتهروا بها واتسم بها سلوكهم المنظّم فى الماضى كان خطأً كبيرًا، نتج عن استرخاء غير معهود.. ومن ثم اسْتُغِلَّ مشهد اشتباكات ميدان التحرير إعلاميًا ضد الرئيس مرسى، وفشلت محاولته انتزاع الترس المُعيق فى ماكينة القضاء... بل اتهم المراهق السياسيّ، الرئيس مرسى بأنه لم يتخذ خطوات جادة وشاملة لتطهير القضاء.. والواقع أن الرئيس قد اجتهد وحاول تغيير المنظومة القضائية بخلع الترس الأساسي فى هذه المنظومة، ولكن تعثرت خطوته الأولى فلم تصل إلى غايتها المنشودة.. وكان السبب هو النوايا المبيتة وتحريف المظاهرات عن أهدافها الصحيحة، من جانب قيادات سياسية تخطط لبث الفرقة بين الثوار وزرع الفتنة بينهم.. على النحو الذى أشرنا إليه.. ثانيًا- يدرك المراقبون المحللون للأحداث فى مصر بعد الثورة أن الفتن تطل برأسها عندما تخرج رؤوس الأفاعى، ويُسمع فحيحها فى الصحف وعلى شاشات التلفزة؛ لقد اختفت من الساحة الإعلامية شخصيات مثل بَدِين وعكاشة وآخرين، ولكن بقي كثيرون مثل: الزند وممدوح حمزة ومرتضى منصور، وقد رأينا هذا الأخير وهو يوجّه سبابًا مقذعًا فى برنامج وائل الإبراشى لرجل من أشرف الناس وأكثرهم وطنية هو الدكتور سيف الدين عبد الفتاح مستشار الرئيس.. الإبراشى جاء بضيفه وهو يعلم ماضيه ويعلم أنه منفلت اللسان وأنه خبير فى إحْداثِ فرقعات حول نفسه، منها معاركه مع شوبير وفضيحة ال(السى دى النسائى) الذى كان يهدد به خصومه.. وظهوره فى قفص الاتهام مع مبارك وعتاة المتهمين بقتل الثوار.. نتجاوز مهندس الشر فأمره هيّن، لنصل إلى الزند.. فهذا الاسم لا يطفو على سطح الإعلام إلا إذا كانت فى جعبته مصيبة: كان نادى القضاة بقيادة المستشار زكريا عبد العزيز ضمن طليعة الحركات النضالية ضد فساد الرئيس مبارك، وكان يدفع فى طريق استقلال حقيقى للقضاء، وقد اكتسب حوله تأييدًا جماهيريًا حاشدًا من الثائرين على النظام الفاسد.. ولكن التفّت حول عنقه أصابع طغمة فاسدة من القضاة المنتفعين من نظام مبارك، الذى دفعهم للتخلّى عنه، وتنصيب عميل له فى قيادة النادى، وقد تم الانقلاب بتنصيب الزند الموالى مكان عبد العزيز المعارض.. ودُفنت بذلك أسطورة نادى القضاة.. ومنذ ذلك اليوم والزند لا يخرج عن السناريو المبرمج عليه، فكان وراء مؤامرة المحكمة الدستورية لحل البرلمان، ووراء حل اللجنة الدستورية الأولى.. ووراء النزاع بين المحامين والقضاة فى طنطا، وآخر تجلِّياته تحْريض النائب العام على رفض عرض الرئيس بالانسحاب الآمن، والمجاهرة بتحدّى سلطة الرئاسة، وحشد ثُلّةٍ من القضاة فى مظاهرة لتأييده.. خوفًا من أن يحل مكانه - شخص آخر- فينكشف الغطاء عن بؤر الفساد فى المنظومة القضائية وتسقط رموزها، وربما يُقدّمون إلى المحاكمة.. وقد يناله من ذلك نصيب.. ولا تنسى أن مبارك لم يكن وحده يعمل على إفساد القضاء، فقد كان أعضاء متنفّذون فى الحزب الوطني والبرلمان المُزوّر يقومون بنفس الدور فى دوائرهم، لتسهيل مصالحهم، والتستّر على عمليات النهب وانتهاك حقوق الناس. أعرف أحدهم ولا أذكر اسمه.. كان مشهورًا كواحد من حيتان الحزب الوطنى؛ يحتضن وكلاء النيابة والقضاة وبعض قيادت أمنيه؛ يمنحهم هدايا سخية: شقة فاخرة، أو سيارة جديدة، حتى المصيف كان على حسابه؛ فمن كان منهم من المعاقرين للخمر، سيجد فى ثلاجة الشاليه المخصص له زجاجات الويسكى والبيرة، ومن كان عنده مسحة تديّن سيجد مصحفًا وسبحة فى الكومودينو.. كان من هؤلاء من وصلوا إلى مراكزهم رغم تخلّفهم الدراسي لمجرد أنهم أبناء مستشارين، ولا يزال أمثال هؤلاء يشكِّلون الجمهور الأغلب من أعضاء نادى القضاة الحالى.. وقد وصلت بأحدهم البجاحة أن يتحدى رئيس الجمهورية فى برنامج متلفز حيث يقول: أنا كقاضى لا يستطيع رئيس الجمهورية أن يقيلنى من منصبى...! نسي النائب العام تركته المثقلة بالذنوب، وتجاهل صيحات الجماهير منذ أول يوم فى الثورة وهتافهم بسقوطه.. وانبهر بمظاهرة القضاة التي اصطنعها له الزند، فسار في طريق التحدي والندامة، وسيرى أن الزند لن يغني عنه شيئًا، يوم تقتنصه الجماهير الغاضبة لمحاسبته على إهدار حق الشهداء فى القصاص العادل.. قال الزند إن عبد المجيد محمود أخطأ عندما أعلن أنه سيطعن على حكم تبرئة متهمي موقعه الجمل، ولذلك حرّضه على الإنكار والتحدي.. وعلى خلاف كل ما يعرفه الناس يصرّح: "نعلم مدى زهد النائب العام بالمنصب، لكنها الأمانة التي هو أهل لها، ونحن هنا ننتصر للقانون ودولته.." هذا كلام مناقض لما يعرفه الغالبية العظمى من الناس.. فهل ترى فيه ذرّة من الصدق أو الأمانة..؟! أم أنه استمراء للكذب وافتراء على الحقيقة..! إننا نظلم الحقيقة عندما نشبّه "فحيح الفاخته" بفحيح الأفاعي في ساحتيْ السياسة والقضاء... [email protected]