للنجاح والفشل معاني محددة ومدلولات متناقضة، وفي حياة الأفراد والأمم يقاس النجاح والفشل بما آلت إليه النتائج والعواقب طبقا للأهداف المرجوة المحددة سلفا. وفي كل بلاد العالم يقاس نجاح الأنظمة والحكومات المتعاقبة بما حققته لشعوبها من نمو ورخاء، وما قدمته من حلول سياسية واقتصادية لأزماتها ومشاكلها، وبما قطعته من خطوات حقيقية نحو الإصلاح والتقدم.. لكن في الحالة المصرية خصوصا والحالة العربية عموما يقاس نجاح الأنظمة بمعايير مختلفة لا يوجد لها مثيل في دنيا البشر، وهي أن مجرد القدرة على البقاء في الحكم والتأبيد في السلطة، هو نجاح باهر في حد ذاته، بغض النظر عما إذا كانت قد فشلت فشلا ذريعا في كل المهام والواجبات المنوطة بها. الحاكم في بلادنا يعد نفسه ناجحا بامتياز مادام باقيا في السلطة لعقود طويلة، ومادام ممسكا بزمام بالحكم ومتغلبا على معارضيه، ولا يهمه في هذه الحالة الوسائل التي حقق بها أغراضه، حتى ولو كانت رغما عن إرادة الناس وتحديا لظواهر الطبيعة وسنن التغيير، فلا يشغل باله ما يسببه هذا المسلك من تعميق للأزمات وما يجره من كوارث وأخطار.. المهم أن يظل متربعا في الحكم كابسا على أنفاس الناس.. فهذا هو النجاح المبين والفوز المؤزر.. أما سياساته التي سببت انتشار الفقر والبطالة والديون والفساد والتبعية للخارج.. فهي أمور تقديرية بنظره، فما يراه الناس سلبيات وكوارث يراه الحاكم ايجابيات وانجازات!!.. يعود ذلك التصور إلى أن الحاكم ينظر دوما إلى الأمور العامة بمنظور شخصي، ويتخذ من السياسات والقرارات بما يخدم هذا المنظور، فهو لا يعد فقر وتخلف الوطن فشلا له، لأنه لم يجعل يوما تقدم الوطن أو إصلاحه هدفا أساسيا وأولويا في حكمه، حيث أن الهدف الحقيقي عنده محدد سلفا لبقاء شخصه في الحكم بأي ثمن وبأية وسيلة. ثمة أمثلة عديدة يمكن طرحها لتأكيد هذه الفرضية، في المشهد السياسي الجاري في مصر، وفيما نراه من ممانعة رسمية للتوجه نحو الإصلاح، فوسط الأزمات الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها الناس، من غلاء وبطالة وفساد.. ووسط حالة عامة من القنوط واليأس الشعبي والاحتقان السياسي الحاد الذي ألهب كل القوى السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.. يخرج علينا الرئيس مبارك في حديث لقناة العربية قائلا انه يشعر بارتياح لحال الشعب المصري، مؤكدا انه ليس في الإمكان أحسن مما كان!!!.. إذا أردنا تفسيرا لهذا الارتياح الشديد الذي أبداه الرئيس والذي يتعارض مع مشاعر رجل الشارع البسيط المكتوي بمصاعب الحياة، سنجد أن نظرة الرئيس للأمور ومعيار النجاح والفشل عنده تختلف جذريا عن باقي الناس.. فالرئيس له الحق كل الحق فيما يشعر به من راحة، فهو قد تسلم الحكم منذ ربع قرن وما زال مستمرا حتى الآن متسلحا بسلطات وصلاحيات مطلقة دون رقيب أو حسيب والرئيس يهيمن بمفرده على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، يسبح الإعلام الرسمي بحمده ليل نهار، ويستطيع أن يحل الوزارات ومجالس الشعب والشورى في غمضة عين، وله سلطة إصدار قوانين والتوقيع على معاهدات واتفاقيات دولية دون مراجعة من أي كان في مصر، وينتظر الوزراء وكبار المسؤولين توجيهاته وتعليماته باعتبارهم مجرد سكرتارية له - كما اعترفوا بأنفسهم- ويقيم طوال العام في شرم الشيخ التي توصف بأنها جنة الله على الأرض، بعيدا عن حر القاهرة وتلوثها، وعندما يسير موكبه تفسح له الطرق وتخلى الشوارع من المارة وتتكدس السيارات نهارا كاملا. لكل هذه الأسباب وغيرها كثير، يشعر الرئيس بالراحة والسعادة، ويرى نفسه رئيسا ناجحا وحاكما قديرا ومقتدرا، أما الأزمة الاقتصادية التي تتحدث عنها المعارضة فسببها الحقيقي بمنظور الرئيس هو هذا الشعب الكسول الذي لا يكف عن التناسل والتكاثر، ويعاني الرئيس اشد المعاناة في طلب المعونات من الخارج لتدبير مأكله وملبسه، ولهذا يشعر الرئيس أنه يفعل كل ما بوسعه لهذا الشعب الذي لا يحق له المطالبة بأي شيء سوى ما يراه الرئيس صالحا له. أما هؤلاء المعارضون الحاقدون الذين يشككون في نجاح حكم الرئيس، ويقولون أن هناك بلدانا كانت أفقر من مصر واقل مواردا وأكثر تعدادا، نجحت في أقل من عشرين عاما (هي جزء من حكم الرئيس) في تحقيق طفرات اقتصادية وسياسية واجتماعية هائلة، مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة والصين وغيرها.. فيما تتخبط مصر في البؤس والديون والفساد، بما يعني فشلا ذريعا في إدارة الحكم يجب الاعتراف به ومحاسبة كل من تسبب فيه.. فلا يعيرهم الرئيس التفاتا لأنهم بكل بساطة معارضون فاشلون، لم ينجحوا في تحقيق غاياتهم أو تنفيذ مطالبهم يوما، وهم إما مهمشون أو في المعتقلات والسجون. أما الرئيس فقد نجح دوما في كل غاياته، والدليل الدامغ على ذلك هو وجوده واستمراره على كرسي الحكم برغم كل ما يقال عنه!!!. هذا هو المنطق الرسمي السائد في بلادنا، والذي جعل من نجاح السلطة مرتهنا بفشل الأمة في الإصلاح والتغيير. [email protected]