كمال حبيب وأنا أتابع مفهوم الحركات الاجتماعية علي مدي طويل لأكثر من عام ونصف طالعت مفهوماً جديدا علي وهو " الحياة التي يعيشها الناس كل يوم " ، لم تعد الحركات الاجتماعية تتحدث فقط عن الحرية أو العدالة الاجتماعية للمجتمع كله ولكنها تتحدث عن " نظام الحياة اليومي للناس " ، أي حقهم في تقرير نوع الحياة التي يختارونها والتي يمارسونها كل يوم ، وأعتقد أن هناك تحولاً هاماً في السياسة في العالم الغربي يجعلها تبدأ من نقطة الحياة اليومية للناس ثم تصعد لمستوي المحليات وهكذا ، ما أريد توضيحه هنا من منظور علم الاجتماع الديني هو العلاقة بين رمضان والصيام وبين ما تطلق عليه العلوم الغربية " الحياة اليومية للناس " ، حين نقول الصيام فهو ممارسة فردية كاملة ، يصوم فيها المسلم ويصمت ويكف طاقات العنف والغضب الكامنة في نفسه ، " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " ، هنا الإسلام يدرك حاجة المسلم والإنسان باعتباره ديناً للفطرة الإنسانية العامة للحرية وممارستها في حياته اليومية ، ومن ثم فهو هنا يساعده في تقرير كيفية ممارسته لحياته اليومية ولكن من منطلق الالتزام ، فالحرية هنا تعلم المسلم الاختيار ولكن في سياق البدائل الفقهية المقبولة داخل النسق الإسلامي . فمثلا في الغرب يتحدثون عن الحركات النسوية وحق الأم في أن لا تنجب هذا اختيارها لنمط حياتها Everydaylife ولكن عندنا في الإسلام لايمكن للمسلم أن يمارس حياته اليومية بدون قواعد أو قيم وهنا مفهوم التربية والعبودية التي تقوم عليها حياة المسلم . وهنا الصيام هو تعبير عن ممارسة نمط حياة يومية جديد مختلف عن بقية أيام السنة ينقطع فيه الإنسان لربه ويخلص له عن الانشغال بأمور الدنيا ، وعلي فكرة من يتحدثون عن حق اختيار نمط لممارسة الحياة اليومية هم تعبير عن تيار مختلف عادة عن بقية الخلق ، هم حركة قد تكون نسوية ، وحركات البيئة تدخل في هذا النطاق أيضا فهم يريدون أن يستنشقوا هواء نظيف ويحافظوا علي الأشجار والبيئة وهم في الغالب متدينون ، ومن ثم فالصيام هو الخروج من النمط المعتاد للحياة إلي شكل جديد يعبر عن الإرادة والالتزام معا . فالمسلم يستقبل الشهر بالنية أي باستحضار خطاب داخلي قوي يعبر عن عزيمة الصيام أي الامتناع عن المفطرات فإذا راودته نفسه أن يأكل أو يشرب أو يجامع فإنه يمتنع عن ذلك لقوة العقاب والتي نسميها في الفقة الإسلامي " الكفارات " أي التي تجبر الخلل والوهن الذي يصيب الإرادة والنية والعهد الذي قطعه المسلم علي نفسه مع الله ، وكفارة الإفطار هي صيام ستين يوماً متتابعة لا تنقطع بحيث إذا قطعها المسلم المذنب – المذنب – فإنه يستأنفها من جديد ، وهنا تعبير عن ممارسة أكبر قدر من الضبط للنفس ، إننا أمام مستوي رفيع من التربية التي تبني الإرادة والعزيمة والتصميم . ويمارس المسلم مع الصيام الصلاة والصدقة والقيام وهو من جنس الصلاة ولكنه ممارسة جديدة مختلفة والقيام هو مانسميه صلاة التراويح ، أي التي يراوح المسلم فيها بين الجهد في القيام وبين الاستراحة التي تفصل كل أربع ركعات ، وفي القيام يقرأ المسلم ( والمسلمة ) القرآن الكريم قراءة طويلة تجهد الجسد وتريح النفس والعقل ، فقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يطيل القيام في رمضان حتي تتفطر قدماه الشريفتين " عليه الصلاة والسلام " ، وكان إذا جاءت العشر الأواخر من رمضان اجتهد في العبادة وشد المأزر – أي لا يجامع زوجاته ، إنه يريد أن يعلمنا كيف نمارس حياتنا اليومية بشكل جديد مختلف عن جريانها المعتاد طول العام ، بحيث يكون مقصودنا هو الارتفاع بالنفس عن الشهوات إلي مراقي الأخلاق ، والتنزه عن المباحات ، أي التنزه عما أباحه الله في وقت محدد للتعلق بالمندوب والمستحب لنكون كما قال الله تعالي " ومنهم سابق بالخيرات " أي المتسابقون في الخيرات والمسارعون إليها ، ونحن نتحدث عن التنافس في عالم المال والسياسة والصحافة والفكر والأعمال ولكننا لم نر أحداً يشير إلي الاستباق في الخيرات وأظن أن الله سماهم السابقون السابقون لأن جميعهم رابح بإذن الله تعالي وجميعهم سبق إلي ما أداه إليه قدره وقوته وعمله وجهده ، فالسابق هو من جاوز الواجب إلي المندوب فهو سابق في كل حال وهو من أهل الجنة بإذن الله علي جميع المدارات والأحوال . والتنافس في عالم الدنيا يعني خسارة لأحد الأطراف إذا فاز الآخر وهو ما نطلق عليه " المعادلة الصفرية " ، ولكن في أعمال الخير فكل المتنافسين سابقون وفائزون ورابحون . الصيام وعالم رمضان الكريم المبارك هو ممارسة متميزة تزاوج بين المسئولية والإرادة لأيام معدودات من أجل مواجهة الحياة العادية طيلة العام ، فهي المخزون الذي يمنح الإنسان سواءه وتوازنه واستمتاعه بالحياة بقية العام . [email protected]