أصبحت الليبيرالية العربية الجديدة أو ما يعرف بالليبيراليين العرب الجدد إطارا لكل الذين يهدفون إلي كسر جمجمة هذه الأمة وتهشيم ذاكرتها وسلخها عن موروثها الحضاري وجعلها مستباحة لأي حركة إستعمارية تنطلق من الجغرافيا الغربيّة. وبحجة التنوير وإرخاء العنان للعقل وتحرير العقل العربي والإسلامي من الخرافات التي علقت به ومن مكوناتها الطلاسميّة كما يزعمون وجهوا خناجرهم للإسلام وراحوا يطعنونه في الظهر وفي كل مكان معتبرين ذلك خطوة ضرورية لتهشيم المقدّس الذي عطلّ مسيرة العقل العربي. وعلي الرغم من تبنّيهم للديمقراطية كشعار لتوجهاتهم إلاّ أنهم راحوا يفرضون علي الأغلبية المطلقة التي تدين بالإسلام توجهاتهم التي سبقهم إليها غيرهم في عصر الملل والنحلل، والذين رحلت طروحاتهم وظلّ الإسلام سيدّ الموقف وصاحب الأغلبية. ويتحرك الليبيراليون الجدد في خطّ معاكس جملة وتفصيلا لتوجهات الأمة العربية والإسلامية، فالشعوب العربية والإسلامية ضدّ التطبيع مع الكيان الصهيوني وهم رموزه بل من أهم المنظرّين له، وقد زار بعضهم العاصمة العبريّة تل أبيب معتبرا ذلك فتحا للفكر العربي وتجديدا له وإخراجا له من حالة السبات السرمدية، والشعوب العربية والإسلامية ضدّ الأمركة الزاحفة وهم الذين طالبوا ويطالبون أمريكا بنخر الجغرافيا العربية والإسلامية وإعادة خلق مجتمعات جديدة وفق المنظور الأمريكي الليبيرالي المتحررّ، والشعوب العربية والإسلامية مع الإسلام مصدر عزتها وقوتها وسياج أمنها وقيمومة شخصيتها وهم يطالبون بوأد هذا الإسلام القديم المريض سبب الداء وعلة التخلّف كما يزعمون، وبالأمس القريب كانوا ينتقدون المحطات التاريخية للمسلمين وإرتقوا في هذه الإيام إلي رمي سهامهم إلي كل مصادر الإسلام الموثوقة من قرآن وسنّة نبوية صحيحة، وفي نظرهم فإنّ العقل يجب أن ينقد كل هذه الكيانات المقدسّة والتي تسببّت في نظرهم في تجميد العقل العربي والإسلامي وحالت دون إنطلاقه ودخوله مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة. وحبذا لو كان الدعاة إلي النزعة التجديدية هذه إذا كانوا تجديديين فعلا من أصحاب الحرص علي معتقد هذه الأمة مصدر قوتها، بل هم بقايا اليسار العربي المترهل وحماة الأنظمة الشمولية القديمة ومادحو النظم الديكتاتورية وعاقروا الفودكا الروسية وبعبارة أخري فهم المرضي الفكريون الذين لم يستقر لهم أي قرار، وظلوا ينتقلون من مدرسة فكرية إلي أخري، ومن مذهب إيديولوجي إلي آخر، وعندما كسدت بضاعتهم اليسارية إستسلموا للأمر الواقع وإنفتحوا علي العقل الغربي الليبيرالي لاعنين الساعة التي عرفوا فيها لينين وتروتسكي، ودخلوا في مواجهة مع أمة المليار والتي تعتبر في نظرهم أمة لقيطة هزيلة فكريا، أبتليت بإسلامها الظلامي والذي يحتاج إلي حركة تنويرية فكرية لإستئصاله من كل الجغرافيا التي تدين به وذلك هو الشرط الأساس في نظرهم لإحقاق الحق وإطلاق النهضة المرتقبة والموعودة. وبهذا الشكل تسعي الأقليّة الفكرية المهزومة أن تفرض توجهاتها علي الأغلبية المسلمة، تماما كما تعمل أمريكا الأقلية أن تفرض توجهاتها علي القارات الخمس. ولأنها كذلك فقد إنطوي تحت لوائها كل الكارهين والحاقدين والمبغضين لمحمد بن عبد الله - ص- ورسالته الإسلامية الحضارية، ووجدت كل الأقليّات في عالمنا العربي والإسلامي عزاءها في تيّار الليبيراليين الجدد الذين يهدفون إلي زحزحة الإسلام من مواقعه الجغرافية الطبيعية وتشكيك المسلمين في معتقداتهم ورسالتهم السامية التي أهلتّهم أن يلعبوا أكبر الأدوار في تاريخ الحضارة البشرية. ومثقفو الفودكا والمارينز والدبابة هم إمتداد للأمركة الزاحفة إلي مواقعنا بل هم المترجم الأمين للأطروحات العولمية والكوكبية التي آلت علي نفسها أن تستأصل الإسلام من واقعه، والقرآن من تربته ومحمد من دياره، والتي بدأت بتجفيف منابع ثراء الفكر الإسلامي ومحاربة المناهج التي فيها إشارة إلي تاريخ الحضارة الإسلامية. فهم مع تدريس آدم سميث وضدّ تدريس حياة محمد ص وصحبه، مع تدريس فلسفة مونتسكيو وضدّ تدريس القيم الإسلامية والمعاني السامية الغنية والتي تكرّس إستقامة الإنسان وضرورة تعاليه عن الإنحطاط. إنّ الليبيراليين الظلاميين الذين هم إمتداد للمحافظين الجدد يهدفون إلي إطفاء النور الذي به تسترشد هذه الأمة وهو القرآن الكريم فبدأوا في التشكيك في معانيه ومفرداته، بل إنّ البعض راحوا يتحدثون عن تخريفات القرآن الكريم وإستحالة أن يكون منسوبا إلي اللّه. وطالب بعضهم بزجّ علماء الإسلام في السجن ومنعهم من الحديث بل وإعدامهم ونفيهم إلي جزر نائية، وفوق هذا وذاك يتحدثون عن الحرية وإحترام الرأي الآخر. لقد قاد هؤلاء حملة ظلامية حقيقية لإطفاء كافة القناديل التي تستضيء بها الأمة العربية والإسلامية، وبدل أن يقدموا بديلا من واقع هذه الأمة، راحوا يبشرون بالبديل القادم من الغرب، ومن واشنطن علي وجه التحديد. لكن ما تناساه هؤلاء أنّ الإسلام ومنذ إنطلاقته إجتمعت عليه مئات الأمم والأمبراطوريات والمذاهب الفكرية الهدامة والمدارس المستوردة، وظلّ قويّا شامخا إستمر هو في نموه وتطوره فيما إضمحلّ الجميع أمامه، وإذا كان أباء الليبراليين الجدد من الكهنة والآباء البيض والماسونيين والجواسيس قد عجزوا عن وأد القرآن ونسف الإسلام، فمن باب أولي أن يعجز الليبيراليون الظلاميون الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأقلامهم وتنسيقهم المعلن وغير المعلن مع المحافظين الجدد. ------ صحيفة القدس العربي في 13 -10 -2005