لعل المفاجأة تجاه تطورات الأحداث الأخيرة داخل حزب النور والدعوة السلفية لم تكن كبيرة للمتابعين والمهتمين بالشأن السياسى العام والمكون الإسلامى منه على وجه الخصوص. فنحن أمام ظاهرة تشكلت سريعا ولم تأخذ الوقت الطبيعى والكافى فى النضج والاكتمال ولم يستطع كثير من المتابعين تفسير هذا (التشكل السريع)، الذى خلا من داعى الضرورة.. وهو الأمر الذى ألقى أسئلة كثيرة.. وترك الباب مفتوحا على مصراعيه لإجابات الظنون، التى لم تكن كلها إثم. والمسارعة التى أقصدها هى هذا الانخراط المندفع والمفاجئ فى الحياة الحزبية والسياسية بدون أفق تاريخى يشير إلى مراحل تتابعت وتتالت بشكل طبيعى. نعلم جميعا الأدبيات التى ميزت التيار السلفى وجعلته جزءا من الحياة العامة، وأشهرها وأكثرها دلالة عليه هى طاعة ولى الأمر والنصيحة السرية والتدرج فى إنكار المنكر وعدم إعلان الجهاد إلا بإذن الحاكم ورفض كل أنواع الخروج أو التحريض عليه حتى لو كان هذا الخروج سلمياً.. وأحد أهم الأدبيات أيضا أن الأصل فى كل المواقف السياسية هو دعم السلطة طالما لم ترتكب كفرا بواحا.. وبقية اشتراطات الخروج التى نعلمها من شاكلة عدم الوقوع فى محاذير ومفاسد أعظم من الواقع القائم. كان هذا هو السمت الغالب على حركة إخواننا فى التيار السلفى. وقد نظرت الأجهزة الأمنية فى العهد السابق إلى ذلك بكثير من الاعتبار، فتابعتهم من بعيد متابعة لا تخلو من دعم وتأييد. كان العمل الطلابى والنقابى والبرلمانى بالنسبة لهم خارج دائرة الاهتمام والفعل.. (مسار المعارضة) بالنسبة لهم وبشكل أساسى وواضح بعيدا عن اختياراتهم التاريخية.. لم يكن (مسارهم المختار) فيما هو متاح من مسارات التغيير والإصلاح.. كانوا يفضلون عليه مسار (المناصحة) التى يجب أن تكون وفق الضوابط الشرعية وبناء على مراعاة المصالح والمفاسد. إلى أن تطورت الأمور على ما نعلم جميعا ورأينا أحزابا سلفية تتشكل سريعا وبأكثر سرعة تغادر اختياراتها الأصيلة والتاريخية فى الموقف المبدئى من السلطة والسياسة. لم يفت كثيرون أن يلحظوا ويدركوا أن المشاركة الحزبية للتيار السلفى على (قاعدة الديمقراطية) تخالف بشكل واضح الأدبيات السلفية التفصيلية وموقفها الثابت من الدولة والحاكم والشورى والنصيحة. وهى الأدبيات التى تدعو الناس إلى رؤية خاصة للسياسة.. لا تزيد عن كونها جزءا ثانويا فى المشروع الإصلاحى السلفى الذى يقوم على دعم النظام والدولة، لا منافسته على السلطة.. نشأنا ووعينا على أن الأساس فى المشروع السلفى هو النهضة العلمية والمحافظة على أصول ثقافة الأمة كما كانت على عهد السلف الصالح. على المستوى الاجتماعى كانت لأفكار التيار السلفى وضاءة شفيفة خفيفة وبساطة وسلاسة تنتظم مع حاجة الناس التعبدية والسلوكية..وتشكل لهم جاذبية خاصة فى المظهر والعادات والاختيارات السلوكية والاجتماعية.. كانت تلك الأفكار لبسطاء الناس كإشراقات النهار على عتبة الدار.. فالسلفية كما أظهرت الممارسة والتجربة ذات أسلوب يسهل تبنيه.. فلا حواجز أو اشتراطات أو تعقيدات تنظيمية وحركية وهذا ما ساهم بشكل كبير فى انتشارهم بالريف على وجه التحديد. وامتدت مكونات الحالة لعلماء وشيوخ التيار السلفى الذين أصبحت لهم (كاريزما دعوية) شديدة التأثير.. تكونت لديهم من السمت العلمي (الشرعي) الذى صاحب حضورهم فى الإعلام والحياة العامة. وأخذ الناس ينظرون إليهم على أنهم (علماء الأمة) كلها لا علماء حزب أو تيار.. الأمر الذى أضفى مصداقية كبيرة للعالم السلفى حتى مع المخالفين له الذين يدركون مدى تجرده ويلمسون جوانب الإخلاص فى شخصيته ومنهجه. وبدا للناس أن (العالم السلفي) يختلف عن شيخ الطريقة وأمير الجماعة.. بدا لهم كاملا شاملا يجمع الكل تحت مظلته الفقهية والعلمية. واهتدى الناس بفطرتهم النقية الصافية إلى أن مفهوم الدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والعلم الشرعى أكبر بكثير من مفهوم العمل الحزبى والانتخابى. وما رأوه من إدخال (تحوير) فى المكونات الجوهرية للدعوة السلفية (مخاطرة تاريخية) قد تحمل آثارا سلبية وضارة على العمل الدعوى والإصلاحى.. بشكل مباشر فى سحب الجهود من الرصيد الاجتماعى والأهلى ودفعها فى الاتجاه الحزبى والسياسى وبشكل غير مباشر فى الحالة التنافسية التى ستحمل تشويشا كبيرا على الرصيد الأسبق للإسلاميين فى العمل السياسى.. أولئك الذين قضوا أعمارهم يجمعون أصدافا من بحار بعيدة وقريبة. وأشفق كثيرون على دخول التيار السلفى (خلاط) المتغيرات السياسية السريعة الدوران.. مما قد يضيق عليهم وعلى المجتمع كله ما ينبغى أن يظل واسعا رحبا.. فإحراج الثبات السلفى أمام متغيرات السياسة خسارة كبيرة وأليمة فى الوقت نفسه.. وتساءل كثيرون عما إذا كانت المحافظة على هوية (السلفية) ومشروعها الدعوى والعلمى خالصا صافيا من شوائب وكدر (الحزبية) أهم كثيرا من مكاسب وقتية محدودة مليئة بالمخاطر والارتباكات الفكرية والاجتماعية والسياسية؟ ورأى البعض أن المشاركة فى الإصلاح والمساهمة السياسية والاجتماعية عبر قنوات عديدة دون الدخول المباشر فى بحر الحزبية المتلاطم الذى سيستنزف التيار السلفى على مذبح السياسة.. هو الأكثر ملائمة وتوفيقا ومطابقة لمقتضى الحال الدعوى والاجتماعى والسياسى فى الوطن كله. كما يمكن للإخوة السلفيين كأفراد وأشخاص المشاركة السياسية دون إقحام (الدعوة السلفية) فى هذا السوق الصاخب ودون إقحام كبار العلماء والدعاة السلفيين فى هذه المتاهات التى ما لها قرار. قديما قالوا: ليكن رأيك وعقلك فلا يعظمن عليك فوت ما فات ولا تأخير ما تأخر.. قد تبدو اللحظة التاريخية التى تمر بها الدعوة السلفية الآن أكثر اللحظات ملائمة لتصحيح مسارات الحركة فى والدفع بها ثانية فى الاتجاه الأصيل مضافا إليها مكتسبات الواقع الجديد بعد الثورة.. ولعل الشجاعة لا تنقص كثيرون من علماء ورواد الدعوة السلفية فى الإعلان المبكر لهذه الخطوة. شقاقات وخلافات (حزب النور) ليست الأولى فيما يبدو، ولن تكون الأخيرة، وهو مما يوجع ويؤلم كل أبناء الحركة الإسلامية بل كل أبناء الوطن.. وكأنى أراهم ينزفون شوقا وغربة.. (شوقا) إلى العلم والدعوة، و(غربة) من الشقاقات الحزبية والمنافسات الإعلامية. فهل ننتظر قرارا تاريخيا قريبا من أهل العقل والعلم والفضل بحل حزب النور والدفع بأبنائه إلى رحاب العمل الدعوى والاجتماعى الأكثر سعًة وخصبًة ونماءً.. والحفاظ على الدعوة السلفية (تيارا) دافقا فى مجرى الإصلاح العريض. تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ** يقال لشىء كان إلا تحققا