ارتدت روب المحاماة الأسود لفترة امتدت قرابة الستين عامًا، كانت تزداد تألقاً وسط كبار المحامين ورجال القانون، ولها مكانتها المرموقة، ومشهود لها بالنزاهة بين الرأى العام، وهى زوجة الكاتب الإسلامى محمد عبد اللطيف، وأم لتسعة أبناء.. إنها الرائدة مفيدة عبد الرحمن، التى تولت العديد من المناصب القانونية الرفيعة على المستوى المحلى والدولى، وهى نموذج لسيدة مصرية تجمع ملامحها بين الطيبة والجدية والصلابة، والتحدى والذكاء والرحمة وإرادة مليئة بالنجاح والكفاح ومشوار طويل بعد مسيرة حافلة فى سلك المحاماة. وصل صوتها إلى المحافل الدولية خصوصًا بعد نجاحها فى الدفاع عن بعض القضايا الكبيرة كأول محامية تدخل قاعات المحاكم العسكرية، فقد وقع عليها الاختيار لتتولى منصباً قانونياً دولياً وبإجماع الآراء وهو رئاسة الاتحاد الدولى للمحاميات العربيات والقانونيات بالقاهرة، لتصبح مفيدة عبد الرحمن بلا منازع رائدة المحاميات العربيات، كما لها شعار اشتهرت به تحت قبة البرلمان والذى سيبقى محفورًا فى الذاكرة، إذ قالت: "أنا مع تحرير المرأة وضد تحررها". ولدت مفيدة عبد الرحمن فى 19 يناير 1914 بحى الدرب الأحمر، ووالدها هو المرحوم عبد الرحمن محمد، وكان موهوبًا بجمال الخط فكتب المصحف بيده 19 مرة، ولها أربع أخوات، وكانت تحلم بأن تكون طبيبة مثل أختها التى سافرت فى منحة دراسية لدراسة الطب وامتحنت مفيدة عبد الرحمن البكالوريا وقبل النتيجة ظهر ابن الحلال وتزوجت، وبعد 15 يومًا من زواجها نزلت للدراسة واستبعدت كلية الطب واقترح عليها زوجها دراسة الحقوق فوافقت، وتقدمت بأوراقها للكلية، لكن العميد أصر على مقابلة زوجها والحصول على موافقة كتابية منه بعد ما علم أنها زوجة وأم، وحاول زوجها فعلا إقناع العميد الذى اندهش لإصرار زوجها على دخولها الكلية. كانت أول امرأة تدرس الحقوق، ودخلت الكلية وهى أم لطفلها عادل الابن الأكبر، وتخرجت فى الكلية ولم ترسب مرة واحدة، وحصلت وهى زوجة وأم لخمسة أبناء على ليسانس الحقوق عام 1935، ولجأت إلى محمد على علوية وقدمت التماسًا للحصول على وظيفة حكومية كان راتبها 7 جنيهات. ثم اتجهت للعمل بالمحاماة، فكانت أول محامية تمارس المحاماة، وكانت تترافع فى إحدى القضايا وسألت الشهود وناقشتهم وبعد عدد من المرافعات فوجئت بالقاضى يعلن الحكم بالبراءة لموكلها، وبدأ الناس يطلبونها بالاسم من صاحب المكتب الذى كانت تتدرب فيه ويشترطون بأن تتولى هى قضيتهم، فدبت الغيرة فى نفس صاحب المكتب وعلى أثر ذلك تركت المكتب لتفتح مكتباً مستقلاً خاصاً بها، وحققت شهرة واسعة، وكانت تذهب إلى المحكمة وهى حامل حتى آخر يوم قبل الولادة. كانت أيضًا أول سيدة تشغل منصب عضو بمجلس إدارة بنك عام 1962 وأيضًا تم انتخابها عضوة بمجلس الأمة واستمرت فى هذا المجلس لمدة 17 عامًا متصلة، وانخرطت فى الحياة السياسية والعامة، وبعد نجاحها فى الدفاع عن بعض القضايا كأول محامية عربية تدخل قاعات المحاكم العسكرية فقد وقع عليها الاختيار لتتولى منصباً قانونياً دولياً، وهو رئاسة الاتحاد الدولى للمحاميات والقانونيات بالقاهرة لتصبح رائدة المحاميات فى العالم العربي، وساعدها هذا المنصب لكى تقوم بجولة فى أوروبا بدعوة من هيئة الأممالمتحدة نجحت خلالها فى إعداد دراسة لنظم الأسرة والطفولة، وهذه الدراسة كانت لها فائدتها لدى جميع الجهات المعنية بهذه القضية، وأنشأت العديد من مكاتب توجيه الأسرة والتى اهتمت بالتصدى لمشاكلها، فضلاً عن بيوت الطالبات التى أوت مئات المغتربات من خارج القاهرة. وشغلت عضوية مجلس نقابة المحامين ودربت العشرات منهم أبناؤها وحفيدها، وانتخبت عضوة عن دائرة الأزبكية والظاهر فى البرلمان لدورات عديدة من عام 1960 حتى عام 1976، وشغلت رئاسة جمعية نساء الإسلام منذ عام 1960 حتى رحيلها. تقاعدت عن العمل عندما بلغت الثمانين ورغم الحياة العملية القاسية التى اختارتها لنفسها فقد استطاعت أن تحل المعادلة الصعبة التى تعجز معظم السيدات عن حلها، فقد كانت زوجة سعيدة جدا حيث استمر زواجها أكثر من 70 عاما، وكان ملحمة من الحب والتقدير والعطاء وكانت أما لتسعة أولاد، وتدين بالفضل لزوجها فى تشجيعها ودفعها للدراسة ثم العمل وكان سببًا فى نجاحها هذا النموذج المشرف المصري، كانت قبل أن تذهب لمقابلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والسادات تمسح حذاء زوجها بيدها قبل مغادرة المنزل رغم وجود الخدم فى المنزل إلا أنها كانت تحب أن تشعر زوجها بأنها زوجة قبل أن تكون محامية مشهورة أو عضوة فى البرلمان. كانت حياتها ملحمة من الكفاح، وواصلت العمل بلا كلل أو ملل واستطاعت أن تحتل مكان الريادة فى أكثر من موقع خلال حياتها العريضة ومارست المحاماة بنبوغ وتميز، علاوة على دورها فى الحياة السياسية، وتوفيت مفيدة عبد الرحمن يوم 3 سبتمبر 2002 عن عمر يناهز 88 عامًا من العطاء.