نتيجة وبرنامج عمل • كنت قد نوهت فى المقال السابق أن القارئ الكريم هو الرفيق والشريك الباحث عن خلاصة ربح الفكرة فى المقال المكتوب، وأشرت إلى أن الموضوع المطروح يستحق مقالا ثالثا مضافا نظرا لأهميته، ومن ثم أزعم أنه يحسب كخلاصة ونتيجة للموضوع. • أشرت أيضا إلى أن إدارة الذات برنامج عمل فكرى وثقافى للتغيير والتطوير، وأن فقه الحياة فريضة دينية، ومصر تستحق أن نهتم بها وأن نفكر من أجلها، والمصريون أهل إبداع وهمة، فهم من ناحية الإدراك يتميزون بالارتفاع إلى مستوى فهم المقاصد الوطنية العليا وبسرعة، ومن ناحية التطبيق العملى يستجيبون أيضا وبسرعة إلى مستوى روعة الأداء المتميز إذا جمعهم مشروع قومى تلتقى فيه إرادتهم تلاقيا حرا، فإذا ارتبط هذا المشروع بغاية كبرى هى الله والجنة، ثم النهوض والتحرر من الرق الثقافى. والأسر الحضارى فستكون النتائج مبهرة، وحليفنا على ذلك حب المصريين لدينهم ولوطنهم وارتباطهم به، فتلك تربة يتشبث الإيمان بترابها، فإذا حافظنا على ما فيها من بذور الخير المتمثلة فى رصيد الفطرة وسقينا أشجارها بماء العمل الجاد فستحصد مصر والعالم كله خيرها وبرها. • بداية المشروع تنطلق من العمل على الخروج من حالة الاستلاب الثقافى والعودة إلى الشهود الحضارى وذلك يتطلب أن نتخلص من ثقافة النهب السائدة، والانتقال منها إلى ثقافة العدل والكرامة والعطاء الوطنى. • علينا أن نتخلص من ثقافة العبث والعجز إلى ثقافة التخطيط والاقتدار والقوة، ولقد نادينا وما زلنا ننادى، وأفتينا ونفتى، وأفتى العلماء كذلك باتفاق أن إقامة الحرف والصناعات التى لا يقوم المجتمع إلا بها ولا تصح ولا تصلح حياة الناس إلا عليها فريضة دينية ،وعلى الذين تخصصوا فيها وتفرغوا لها أن يتقنوها وأن يبدعوا فيها، ولكى يتم ذلك لابد من منظومة أو نسق معرفى جديد ينطلق أساسا من الفهم الصحيح لكتاب ربنا وسنة نبينا، والنسق المعرفى الذى نسعى أن نصبغ به مجتمع ما بعد الثورة يبدأ بعد التركيز على بناء الإنسان وتشييد عمارة قلبه وعقله ووجدانه لأنه المرتكز الأساس لأى حضارة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا دخلنا مرحلة ربيع الفكر الذى يبدأ من حقل الحرية وصياغة مفاهيم جديدة تُدْخِلُ الشأن الخاص فى الشأن العام وتمزج بينهما. • أدوات النقل وآلياته فى الدخول لهذه المرحلة هى المسجد والإعلام والتربية والتعليم ومؤسسات البحث العلمى، والمنطلق لابد أن يبدأ من الاستقامة، وإلا فلا فائدة فى كل جهد مبذول تصحبه نوايا شريرة، وكم من مشروعات لا ينقصها دقة التخطيط باءت بالفشل، لأن من تولاها لم يكن نظيف الأخلاق والضمير واليد، وكما يقول (د.عبد الرزاق السنهورى): "من حق الحياة علينا أن نؤمن بالاستقامة قبل أن نبدأ العمل، فما أثمر كفاح زاملته الخطايا"، لذلك فإعلام الغواية بمعناها العام سياسية واجتماعية واقتصادية لابد أن ينتقل لإعلام الهداية بمعناها العام أيضا، والنمط السائد فى خطب المساجد لابد أن يتغير، وكذلك برامج التعليم والتربية والفن لتكون ذمة المجتمع واحدة، تدور حول غاية واحدة وإن تعددت وسائل الصياغة والتأثير، ومن ثم يجب أن يتضمن النسق المعرفى الجديد تصنيفا وتوصيفا وتفصيلا جديدا للفرائض الدنيوية التى تبدأ تفصيلا بالفرائض الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونقيضها يكون بالتقصير فى تلك الفرائض ويصنف على أنه باب فى الكبائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والمقصود من ذلك أن نُدْخِلُ الحياة بميادينها المختلفة لتكون جزءا من الدين ومجالا لتطبيقه تحقيقا وتصديقا لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام 162 163)، ومن ثم يدخل الشأن الخاص فى الشأن العام ليكون جزءا من المشروع الوطنى الكبير وليشكلا معا رافعة من روافع التقدم والنمو والنهضة. • وقد قلت وكتبت أنه إذا كان الله والجنة هما الغاية الكبرى فعلينا أن ندرك أن الطريق إلى ذلك يبدأ من الدنيا دار التكليف والعمل، فلا يمكن الوصول إلى الآخرة الصالحة إلا من خلال الدنيا الصالحة، وصلاح الدنيا لا يكون بتركها للشياطين المهتاجة لتوجهها إلى الشر وتستخدمها فى نصرة الباطل وحصار الحق وأهله، وإنما بعمارتها والسيطرة عليها وترقية الوجود فيها باسم الله، وهنا نتذكر كم خسرت الدنيا حين غاب المسلم عن دوره ورسالته وحصر دينه فقط فى جنبات المسجد، وقد كانت هذه هى غاية الآخرين. • علينا أن نغرس فى حس المسلم وضميره أنه ليس متدينا من يترك دنياه بحثا عن صلاح آخرته، فالأولى مزرعة الثانية، والصلاح فى الأولى مقدمة لبلوغ الصالحات فى الآخرة. • قائمة أولويات المسلم تحتاج إلى تعديل ويفترض فيه أن يكون عنصرا مشعا بالخير الذى تحمله رسالته للناس، وهذا يتطلب منه أن يكون فاعلا ومؤثرا، وله حضوره المتميز بين الخلائق، وعلينا أن نعلم الناس أن المسلم عندما يتخلى عن أداء دوره يتمدد الشيطان فى المساحات الفارغة التى تركها المسلم، ومن ثم يفرض الشيطان على الدنيا رؤيته وقوانينه وتصوراته، وهنا تكون الطامة والخسارة الكبرى. ولقد أشار إلى ذلك العلامة الندوى بعنوان لكتاب كامل: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين". • المناهج الثقافية والفكرية التى استوردناها معلبة ثبت فشلها فى أكثر من تجربة، ولابد من الوعى بالفرق الكبير بين عالم الأشياء وعالم الأفكار، والتكنولوجيا من عالم الأشياء لا من عالم الأفكار، والرؤية الإسلامية أوسع وأعلى أفقا وأهدى سبيلا، فى التعامل مع الإنسان، وفى تحليل دوافعه وبواعثه ومعرفة مواطن القوة والضعف فيه من أى منهج آخر، وليست تتم هذه الرؤية بمجرد حفظ النصوص وترديدها، وإنما تتم بالغوص فيها والتعرف على مكنونها ومخزونها واستخراج كنوزها وإدراك مقاصدها وتوظيف ذلك كله فى تغيير السلوك والدفع تجاه التغيير والنهضة. • علينا أن نعلم الناس أن واجبات الحياة كواجبات الدين، وبهما معا تتحقق عمارة الأرض، وبهما معا يستطيع المسلم أن يحمى كرامته وإنسانيته وحتى قيمه الدينية والأخلاقية. • على الخطباء والأئمة والعلماء أن يعلموا الناس أن الحياة فى سبيل الله أشد تكلفة وأكثر عناء من الموت فى سبيل الله، فالأخير لا يحتاج إلا لحظة يكون الموت فيها هو الخيار الأفضل. بينما الحياة فى سبيل الله تحتاج إلى جهد وكد وصبر ومعاناة، ولو عاش المسلمون حياتهم فى سبيل الله لاستراحت الدنيا وهدأت كل عواصف الشر فى العالم. • الجامعات ودور البحث العلمى لهم أيضا دور كبير وعليهم أن يبدأوه، فالفرصة سانحة الآن ويجب أن نبدأ بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق إذا كنا فعلا نريد أن ننهض. • ثقافة الواجب أولا يجب أن تسود وعلى كل المستويات. • وعى الشارع وإحساسه بالملكية العامة لابد أن ينمو ويتفاعل ويدرك أن الشارع الذى نسلكه من بيوتنا لأعمالنا إنما هو نعمة يجب أن نحافظ عليها بنظافته والانتظام فيه، وألا نسمح لأى فئة من فئات المجتمع بقطعه أو تعطيل السير فيه. • المرافق التى نستعملها وسيلة لتيسير حياتنا وخدماتنا وتحقيق ما نريد وينبغى أن نهتم بها ولا نكون سببا فى تعطيلها. • وأحسب أن مخزون الإرادة فى الشعب المصرى الأصيل يستطيع أن يستثمر ما هو متاح من ثروة مصر، وهو قادر أن يحول مصر وصحراءها إلى روضات وجنات إذا عرفنا كيف نستفزه ليتحرك، وكيف نوجهه ليعمر ويضيف ويبدع. • محزون الإرادة فى هذا الشعب الأصيل بنى الأهرامات قديما وصنع حضارة مازالت آثارها تحدث الدنيا عن مصر، وقام هذا الشعب بثورة بهرت عقول العالم حتى شهدت أن أم الدنيا ما شاخت إرادتها، ولا اهتزت يمينها، ولا اضطربت قواها، وأنها وإن قبضت على النار ثلاثين سنة، إلا أنها ما زالت ولادة، ولا يزال لها من أبنائها من يقود على طريق الخير خطاها ويقبض على نيران مشكلاتها باقتدار وتحمل للمسئولية ويداه غير مرتعشة. • فهل يمكن أن نكف عن معارك طواحين الهواء ونستغنى عن الأدنى ونغلب مصلحة الوطن ونبدأ بالذى هو خير؟؟ Email: [email protected]