كمال حبيب سنة الاعتكاف سنها النبي صلي الله عليه وسلم للمسلمين في العشر الأواخر من رمضان وهي العشر المباركات التي تنتقل فيها ليلة القدر في الليالي الفردية ، واعتكف النبي صلي الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان وفي الوسطي منه ولكنه ثبت علي الاعتكاف في العشر الأواخر . والاعتكاف سنة مدهشة في الإسلام ، فهي أولا سنة ولم تفرض أي أنها مندوب للأنفس التي تشعر من ذاتها همة وترقياً في السلوك ومدارجه ، وفي الإسلام عند الصوفية أحد مراتب التدرج في الطريقة هي الاعتكاف التي ينعزل فيه المريد عن العالم مدة طويلة يكتفي بأقل الطعام وربما الصيام الكامل لفترات طويلة ، ولا يختلط إطلاقا بأحد من الخلق فيما يعرف عند أهل الطريقة بانقطاع العبد عن الخلق للحق ، وبعدها يدخل في المراتب التالية ، ولاشك أن بعض النفوس التي تميل للعزلة والبعد عن الاختلاط قد يراودها رغبة الانقطاع هذه ، ومن هنا كان تشريع الاعتكاف ولكن بالقدر الذي لا يحوله إلي رهبانية ، وأنتم تعلمون أنه " لا رهبانية في الإسلام " وأن رهبانية المسلمين هي الجهاد ، وكما قال تعالي " ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " ، وأظن والله أعلم أن عدم رعاية الرهبانية التي كتبت علي أهل الكتاب هي التزيد فيها حتي تحولت من مجرد فعل للعبادة يعين عليها ويعزز الفعل الإيجابي لحركة المسلم إذ به يسحبه إلي عالم الزهد والانعزال بعيداً عن مناشط الحياة ومكابدها ، ونسق الإسلام التشريعي قائم علي التوازن والوسطية والاعتدال والتيسير ودعونا نستخدم التعبير القرآني الفذ " الرعاية " وأول مايتبادر للذهن في معني الرعاية ، هو العمل الدائم من أجل إصلاح مالايتم إصلاحه إلا بقيام من يلزمه ذلك العمل " ، فالراعي هو من يقوم علي إصلاح الغنم ، ورعايته لهم تعني تدبيره لأمورهم التي لا يمكن تدبيرها إلا عن طريقه ، فهي حيوانات عجماء ، والأب راع علي أولاده أي مسئول عن تدبير أمورهم التي لاتصلح إلا بمتابعته لها وقيامه عليها " وهكذا ، فما أريد أن انتهي إليه هنا أن عملية الرعاية هي عملية دقيقة تقوم علي فكرة الضبط والتوازن بشكل جوهري . فتحول الاعتكاف إلي مساحة تشريعية أكثر من تلك التي قررها النبي صلي الله عليه وسلم سيكون خصماً من أداء بقية الفروض والواجبات التي أرادها الشارع من المسلم ، ومن ثم فالاعتكاف تدريب علي سياسة النفس وتربيتها لتتخلص من عوائدها اليومية التي تتجاذبها عوارض الدنيا لتتوحد مع مطلوب الخالق وحده سبحانه وتعالي ، بيد إن الخالق العظيم لا يرضي لنا كمسلمين أن ننقطع لذاته – بحيث نفني فيها ونتوحد كما يفعل غلاة الصوفية ، وإنما هو يريد لنا أن نعبر عن وحدانيته بالتفاعل مع الخلق ورعاية الضرورات الخمس بحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والعرض ، فوحدانية الله تتجلي في فعل الخيرات بإصلاح الخلق والعالم وتحقيق معني الاستخلاف في هذه الحياة . النفس هي التي تورد الإنسان المهالك ، كم من قول مأثور عن خطر النفس " يانفسي أنت من أوردتني المهالك " وهذا صحيح ، فالنفس لا تصلح ميزاناً لأي شئ لذا تحدث علماء الأخلاق عن العقل ثم ميزان الشرع الذي هو ميزان العدل الصحيح ، فالشريعة والإسلام بالفهم الصحيح لهما هي مقياس رعاية النفس وضبطها وملمح ذلك كما أوضحنا في تشريع الاعتكاف ، فهو ممارسة شرعية تقدر بالمقدار الذي يمنح النفس طاقة الانقطاع للخالق وشهود وحدانيته عن الخلق ، ليعود المسلم إلي الخلق يزنهم بميزان الحق فتعتدل أمور الدنيا وتنصلح أحوالها عبر المفهوم الإبداعي للقرآن الكريم " الرعاية " . النفس هي التي تورد الإنسان المهالك ، ولذا أمر رعايتها مطلوب للعقلاء ، فكم من رجل كبير في السن صغير في المقام لأنه لم يرب نفسه ولم يرعها ، وكم من رجل تبدو هيئته ناطقة بمقام كبير وحين يتصرف بالكلام أو الفعل أو الشهادة أو التقويم تبدو هيئته مجرد منظر بلا رعاية تضع من قدره وتحط من قيمته . سنظل ننبه علي أن النفس هي بداية الإصلاح والتغيير ، وأن السلوك ليس مجرد مظهر ولكنه مخبر بالأساس يظهر ويبين علي حقيقته في التعامل بالدرهم والدينار والمال ، وبالتعامل المباشر في الأسفار وفي الأعمال وفي الاختلاف والخصام وفي الغضب والتمكن من الانتقام ، ولذا رعاية النفس هي مفتاح النجاة للمجتمعات وللإنسان وسلام النفس والأسرة والمجتمع والعالم ينطلق من النفس . ورمضان شهرالصيام هو موسم رعاية النفس لمنحها صلاحها وهدايتها وتقويمها وتقواها وسواءها وذلك كله بعون الله وتوفيقه العفو الغفور . [email protected]