أمران مما يستنبط من حِكَمِ ليلة القدر. أولهما: يقول الله سبحانه و تعالي: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم"التغابن 15 ويقول "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله" المنافقون 9 ويقول "انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"التوبة41 ويقول"تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم"الصف11 فالأموال ذُكرت قبل الأبناء في معرض التذكير بأنها فتنة، وذُكرت قبل الأنفس في معرض الترغيب في البذل. فهل يستدل من ذلك أنها أهمُ من النفس أو الولد؟ كنت أحسب ذلك تبعا لما جاء في عدة تفاسير، إلا إنني واجهتُ مشكلة في هذا التفسير، فان من المعروف أن حبَ النفس مقدم بلا خلاف علي كافة الأشياء، يليه حب الولد، هكذا رتبت الضرورات الخمس كما وردت في أصول الفقه، النفس-الدين-النسل-العرض-المال. فالمال هو الملهيّ الأول والأكبر عن ذكر الله، إذ إنه وسيلة، والأنفس والأبناء غاية، والوسيلة دائما تأتي قبل الغاية. فالإنسان ينشغل بجمع المال ليفيد به نفسه وولده. فالمال يأتي في ترتيب الطلب سابقا للنفس والولد. وانشغال الإنسان بالوسيلة مطلوب شرط أن لا تهدم الغاية أو تجور عليها. والنفس تنخدع بما كان هذا شأنه، فتظن أنه هو الذي يحقق السعادة والأمن، ولكن الله سبحانه هو مصدر السعادة وهو مصدر الأمن، فمن هنا أمر الله سبحانه بأن ينخلع الناس عن ذلك الوهم، وأن يخرجوا أولا عن الوسيلة الي الغاية وعن الفرع الي الأصل، إذ الله هو الرّزاق وهو الوهّاب، وهو المعطيّ وهو المانع. فلنؤمن بأن الله هو الرّزاق وهو الوهّاب، وهو المعطيّ وهو المانع، حق الإيمان، نعم، حق الإيمان. وحق الإيمان إن يصدر عنه عمل، وما صَدَقَتْ ولا أفْلحت نفسٌ تشِح بالمال حين يحين الحين ويأتي دور البذل. ثانيا: يقول الله سبحانه و تعالي: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان"البقرة 185 ويقول "انّا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر،تنزّل اللائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتّى مطلع الفجر"القدر "حم، والكتاب المبين، انّا أنزلناه في ليلة مباركة"الدخان2 فالله سبحانه قد اختار أفضل الحديث وهو كتاب الله، ومن البشر أفضلهم وهو محمد صلي الله عليه وسلم ومن الأمكنة أفضلها وهي مكة ومن الأزمنة أفضلها وهو رمضان ثم أختار من رمضان ليلة القدر، فكان فضل علي فضلٍ علي فضلٍ على فضل، نزل أفضل الحديث (كتاب الله) علي أفضل البشر (محمد صلي الله عليه وسلم) في أفضل بقعة من الأرض (مكة) في أفضل ليلة من الزمان (ليلة القدر) الله سبحانه يقول "وربك يخلق ما يشاء ويختار"القصص 68 من هنا جاء كفر بني إسرائيل حين استكبروا أن ينزّل القرآن علي محمد صلي الله عليه وسلم. ومن هنا جاءت بدع من ابتدع من تخصيص أوقات أو أماكن أو هيئات معينة بعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، كمن ابتدع هيئات للذكر أو خصص أزمنة للصيام بخلاف ما شرع الله، ولهذا الحديث تتمة في موضع آخر إن شاء الله. وقول الله سبحانه "وما أدراك ما ليلة القدر" فانه دال علي أنه مخبر بها، اذ الفرق بين قوله "وما أدراك" وقوله "ما يدريك" أن الأخيرة لا يخبر بها كما في "وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا"، والأولى، "وما أدراك ما ليلة القدر" ، يخبر عنها كقوله "وما أدراك ما علييّون، كتاب مرقوم" المطففين19،20 فأخبر الله عن الكتاب. وجمهور العلماء علي أنها تقع في ليلة السابع والعشرين من رمضان لما رواه مسلم من حديث ذر بن حبيش "قال: قلت لأبيّ بن كعب: إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكنه أراد أن لا يتكل الناس، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين" رواه مسلم. ومما يرجح أنها ليلة السابع والعشرين ما استقر في علم الأصول من قاعدة "الجمع بين أطراف الأدلة". فما ورد من أنها تلتمس في العشر الأواخر من رمضان و في الليالي الوتر منها، لا يناقض أنها ليلة السابع والعشرين منه إذ كل الأوصاف متحققة فيها دون تعطيل لأيّ من الأحاديث الواردة. فالتمس، أخي المسلم، هذه الليلة التي يفخر بها الزمان وتتيه بها الليالي والأيام، لتقّيم فيها لله فروض الطاعة مضاعفة بما يناسب قدر ليلة القد