الفساد كظاهرة، لم يرتبط بمصر لوحدها فقط، بل هو ظاهرة انتشرت فى كل الدول القديمة والحديثة والمعاصرة، وفى كل المجتمعات المنفتحة والمنغلقة والمتدينة والوثنية على السواء.. غير أن الذى حدث فى مصر طيلة الثلاثين عامًا الأخيرة، حكم مبارك، أجبر الكثير من المحللين لأن يقفوا أمامها طويلاً ويتفحصوها، باعتبارها تجربة للتعلم والعظة والدرس.. فمنهم من وقف على أسبابها فقط، وربطها باختلال النظام الإدارى وضعف المرتبات وأساليب جمع الضرائب والتحالفات التى تمت بين أصحاب النفوذ والثروة.. ومنهم من وقف على مظاهرها من اختلاس الأموال وانتشار للرشوة والمحسوبية والتزوير فى أوراق الدولة الرسمية، وضعف الأجهزة الرقابية، والسطو على وجبات الموظفين ومعاشاتهم، والمنع للتغذية المدرسية وتوزيع الأدوات الكتابية وغيرها.. ثم الاستيلاء على تقاوى المزارعين ومبيداتهم ومحاصيلهم وأراضيهم.. فى حين لم ينشغلوا كثيرًا بقراءة آليات الفساد فى مصر، وما إذا كانت تلك الآليات متجذرة فى أداء السلطة التنفيذية وسلوكياتها؟، أم فى اختراق السلطة التشريعية والقضائية معًا؟ أم فى التحالفات التى وفقت بين هذا وذاك؟. وربما يكون رجال الأعمال والمنتفعون من نظام مبارك قد استفادوا من الخلل الموجود فى الجهاز الإدارى للدولة، لكن بالتأكيد كانت لهم آلياتهم الخاصة فى توريط المسئولين والموظفيين العموميين فى التماهى معهم وإعطائهم ما لا يستحقون.. ومن ثم بدا الأمر كما لو أن الموظفين وحدهم هم المسئولون عن هذا الفساد الذى جرى.. فقد حدث اختراق كبير للسلطة التشريعية، فقننت هذا الفساد وأعطته الشرعية ليتعايش مع الناس بشكل قانونى.. فضلاً عن أن رؤساء الأجهزة الرقابية قد تم تعيينهم من قبل جهات عليا، لذا كان همهم الأول الولاء لمن قام بتعيينهم دون النظر لمصلحة هذا الشعب المسكين.. فعملوا على تحجيم تلك الأجهزة، وتجميد التقارير التى تتحدث عن هذا الفساد وتفضحه.. ولعل ما حدث من رئيس هيئة الرقابة الإدارية، حسب البلاغات المقدمة ضده للنائب العام، يعد خير مثال على هذا الأمر.. بل إن إشارة أحد البلاغات على إخراجه لمائة ألف جنيه هدايا سنوية للمشير طنطاوى، والثراء الفاحش لأعضاء المجلس العسكرى وبعض وزراء الدولة بعد توليهم لمناصبهم، تفضح سلوك هؤلاء الرؤساء وطريقة تعيينهم وآلية عملهم فى تلك الأجهزة. وجدير بالذكر أن مبارك ظهر فى سنواته الأخيرة كما لو كان الحذاء الذى وافق قدم الفساد والمفسدين.. فقد انتشر الفساد فى عهده انتشار النار فى الهشيم.. ومن ثم أصبح الرئيس نفسه آلية من آليات الفساد الرئيسية فى البلاد.. لدرجة جعلت التخلص من هذا الفساد مرهونًا بإسقاطه عن الحكم.. فقد أصبح هو وبطانته، التى تتحدث ظاهريًا عن وجوب مقاومة الفساد، على رأس قائمة المفسدين فى الأرض.. فضلاً عن أن منظومة الفساد فى عهده قد أصبحت من أهم مساوئ المركزية المصرية.. فتجميع تلك الأموال فى يد شلة ترأس الحكم، وترى أن المال المجموع من حقها لوحدها، جعلهم يتفننون فى رشق كل الأجهزة الرقابية بمعاونيهم وبلدياتهم.. فتحصنوا عبر أعوانهم، ضد عمليات الحساب والعقاب.. وبدا المحافظون والوزراء ومعاونوهم وكأنهم جباة لخيرات الوطن، مهمتهم الرئيسية جمع المال واقتسامه مع رؤسائهم.. وهو الأمر الذى جعل التقارير المنشورة عن الفساد تبدو سطحية وغير معبرة عنه وتخفى معظمه.. وبالطبع فإن تستر النظام الحاكم على الفساد القائم قد تم بهدف إرضاء النخبة الحاكمة عن مشروع التوريث والدعاية له. ولعل التحالفات التى قامت بين رجال الأعمال وموظفى الأجهزة الإدارية من ناحية، والتحالفات الموازية لها بين نفس هؤلاء الموظفين وأقرانهم داخل الأجهزة الرقابية، تلخص أهم آلية من آليات الفساد التى جرى تدشينها فى مصر مبارك.. فقد سعى رجال الأعمال دائمًا عن حلفاء لهم من بين الموظفين العموميين، لتيسير مصالحهم فى الحصول على الأراضى والقروض والإعفاء الضريبى والجمركى، ولتوصيل المرافق لشركاتهم وأعمالهم على حساب الدولة.. وسعى بالمقابل الموظفون المتسترون على هذا الفساد والقائمون عليه، لإيجاد تحالفات موازية داخل الأجهزة الرقابية تتستر على جرائمهم وفسادهم.. ولعل النظر فى التحالفات القائمة بين موظفى الأجهزة الرقابية والحكومية، بضمان رشق أعوانهم فيها، يشير لأهم آلية من آليات الفساد القائمة.. وإذا كنا جادين فى مقاومة هذا الفساد المستشرى فى كل أنحاء الوطن ونسعى بالفعل لملاحقته، فهذا يتطلب منا ضرورة التخلص من مراكز القوى داخل تلك الأجهزة، وضرورة تفجيرها وتفتيتها. من هنا، فإن اكتمال سيطرة الثورة على الحكم يتطلب السعى للسيطرة على الجهاز الإدارى للدولة بالكامل.. فأى أزمة اقتصادية يمر بها الوطن، تُبقى فرص القائمين الآن على هذا الجهاز فى مناصبهم دون غيرهم، لتستمر التحالفات الموجودة على حالها.. ومن ثم فإن استمرار الوضع القائم كما هو عليه، سيضعف من فرص الثورة فى الحفاظ على مكتسباتها.. وفى هذا الإطار يجب أن تعمل السلطة القائمة الآن، على وضع إستراتيجية لمواجهة آليات الفساد الموجودة وإعادة الأموال والحقوق والأراضى المنهوبة.. بضرورة سن التشريعات اللازمة لتجفيف منابع هذا الفساد ومقاومته فى مكامنه.. ولابد من إصلاح الجهاز الإدارى للدولة بما يتماشى مع عملية التجديد المستمرة لموظفيه وتقوية أجهزتهم المناعية ضد الفساد.. ثم وضع أسس للعلاقة بين الأفراد العاديين وموظفى الدولة من ناحية، وبين رجال الأعمال والأجهزة الإدارية من ناحية أخرى.. فواقع الفساد المرفوض من قبل الناس يتطلب وجود قواعد محددة لتلك العلاقة بين الفرد والدولة، وأسلوب جديد لإفشال أى تحالفات يمكنها أن تتم فى المستقبل.. حفظ الله الوطن ورعاه من كل عناصر الفساد والمفسدين. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.