أصدرت هيئة الرقابة الإدارية تقريرا يشير إلي وجود فساد مالي وإداري كل دقيقتين أي بواقع 081 قضية يوميا.. لم يكن هذا التقرير يحمل شيئا جديدا ولم يختلف عن غيره منذ عام 3002 والذي أعلنت فيه منظمة الشفافية العالمية عن الخسائر التي تتكبدها مصر بسبب الفساد قد بلغت 05 مليار جنيه! وفي عام 9991 واجهت هيئة الرقابة الإدارية قضايا فساد بلغت 66 ألف قضية لترتفع في عام 2002 إلي 86 ألف قضية، وكان أشهرها في هذا الوقت قضية »الجمارك الكبري« مرورا بقضية »القمح الفاسد« إلي جرائم الاستيلاء علي أموال البنوك وإهدار المال العام والتربح من مال الغلابة.. بالرغم من خطورة المؤشرات إلا أن الأمر لم يختلف قبل الثورة أو بعده.. ومازال الفساد ينخر في عظام المجتمع وبقيت الأساليب العقيمة والتقليدية في محاربة الفساد واحدة ولم يطرأ اي جديد سوي تصريحات علي الورق. في هذا التحقيق نستشهد ببعض عبارات د. أحمد درويش وزير التنمية الإدارية السابق عندما كان يقول ان هناك موظفين يقومون للصلاة ثم يقبلون الرشوة، كما أن رفع الاجور لن يحل المشكلة بدليل ان موظف الستينات كان دخله أضعف ولم يكن فاسداً. وفي إحدي الندوات أكد درويش علي ان مصر كانت من أوائل الدول التي قامت بالتوقيع علي إتفاقية الاممالمتحدة لمكافحة الفساد، غير ان التوقيع وحده لايكفي، ويبقي الجهاز الإداري في أمس الحاجة إلي ثورة إدارية.. للفساد أنواع ويعلق د. أشرف عبدالوهاب المفوض باختصاصات وزير التنمية الإدارية علي التقرير بأنه لم يأت بجديد، قائلا ان الفساد لم ينته بعد الثورة بل مازال موجودا وأن الثورة لن تغير كل شئ، لاننا نحتاج لتغيير سلوكيات البعض وثقافة مجتمع والتي ستأخذ وقتا طويلا للقضاء علي السلبيات التي نعيشها. ويوضح د. عبدالوهاب أن للفساد أنواعا واصعبها هي »الإكرامية« والتي يعتبرها البعض نوعا من المعونة الاجتماعية، فهناك من اعتاد عليها أو علي دفع »البقشيش« حتي يحصل علي خدمة حكومية، لترتقي هذه المسميات إلي »رشوة« والتي يري بعض الموظفين أنها حق من حقوقه في ظل ممارسته لسلطة علي المواطنين، ومن ناحية اخري يتساهل في دفعها المواطن لانها وسيلته للحصول علي حق من حقوقه، عكس ما يحدث في الدول الاخري، بأنها تدفع ليحصل الشخص علي حق ليس حقه! فصل الخدمة ويضيف د. عبدالوهاب انه طالما ان المعاملات في أي قطاع من قطاعات الدولة تتم بدون الشفافية المطلوبة، وهناك من لايراعي المصلحة العامة، بل ينظر إلي المصلحة الخاصة للافراد، فإن الامر سيؤدي حتما إلي تنوع واستمرار صور الفساد، ويري أن الانضباط الإداري يأتي تدريجيا، من خلال فصل مقدم الخدمة عن متلقيها، وهو نظام معمول به حاليا في بعض الجهات الإدارية. ويشير إلي أن تحقيق الرضاء المالي والأدبي للموظف ليس وحده هو وسيلة القضاء علي صور الفساد، بل أن إهمال بعض الموظفين في أعمالهم واللامبالاة في إدارة المرافق العامة، ووضع الموظف في وظيفة لاتتناسب مع قدراته وإنعدام المراقبة والمحاسبة.. كلها أمور لابد من إعادة النظر فيها. التجربة التركية وتري د. آية ماهر استاذ الموارد البشرية بالجامعة الالمانية ان الفساد يعوق عمليات الاصلاح والتنمية ويهدر كثيرا من الطاقات والاموال، مشيرة إلي أن تدارك المشكلة من قبل هيئة الرقابة الادارية لابد أن يأخذ دورا اكثر فاعلية، ولايتوقف عند إصدار تقارير بل ضرورة وضع إستراتيجية وتصور واضح من قبل الهيئة، والتصدي للفساد ويجب معرفة كيفية التصدي لها وليس ذكر أعراض المشكلة من حين لآخر.. وتشير د. آية إلي النظم التي نجحت في السيطرة علي صور الفساد مثل بريطانيا وألمانيا وماليزيا، فلها نظم رقابية صارمة لمواجهة اشكال الفساد، كما أننا لنا في التجربة التركية أسوة، فالحكومة هناك حرصت علي ان يكون لديها رقابة داخلية تابعة لرئاسة الوزراء، وأخري خارجية من خلال هيئة مستقلة من منظمات المجتمع المدني تدفع بتقاريرها مباشرة للبرلمان عن أي فساد يتم في أي مؤسسة حكومية وبالتالي تكون الرقابة مزدوجة وصارمة، ايضا لابد من عمل احصائيات حديثة لرصد معدلات الفساد سنويا وعدم الاعتماد علي بيانات سابقة، لان دقة البيانات هامة جدا لعمل مقارنات كل فترة لرصد التحكم في مشكلة الفساد. وبالنسبة لخبراء الدين فقد تلقي علماء الازهر الشريف تفاصيل هذا التقرير بشئ من الفزع، حيث اعتبروا أن ما جاء فيه من أرقام مخيفة »أمر كارثي« بكل المقاييس وهو ما دفعهم إلي المطالبة بالعودة إلي الرؤية الإسلامية للإدارة لأنها بحسب تعبيرهم الوحيدة القادرة علي إقتلاع الفساد بجميع صوره من جذوره. وأكد العلماء أن الإسلام الحنيف وضع رؤية شاملة للإدارة والقيادة محاطة بتشريعات وقائية وإجرائية تمنع تطرق الفساد اليها، كاشفين عن وجود »05« آية قرآنية تحارب المفسدين، وفي مقابلها »051« آية تتحدث عن اصلاح الفساد. د. محمد المختار المهدي عضو مجمع البحوث الإسلامية، والرئيس العام للجمعيات الشرعية أرجع الارتفاع في عدد قضايا الفساد بالمصالح والهيئات الحكومية إلي ضعف الوازع الديني لدي قطاع عريض من فئات المجتمع واصفا تقرير هيئة الرقابة الإدارية الذي كشف عن وجود قضية فساد كل دقيقتين بالمفزع والمخيف. وقال د. المهدي: لو أن القائمين علي أمر مصر علي مدي العقود الماضية حرصوا علي الاخذ بمنهج الإسلام في الإدارة والقيادة، ما كان الفساد قد توحش بالشكل الذي عليه الآن، ولاسيما وان الاساس الذي اعتمد عليه الاسلام في محاربة الفساد يقوم علي الايمان بالله تعالي، ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة، وهذه المراقبة هي الاساس في عملية محاصرة الفساد. »05« آية وتطرق د. المهدي إلي الكيفية التي حارب بها الاسلام اشكال الفساد، مؤكدا ان المعني الذي يطرحه الإسلام للفساد اوسع بكثير مما هو متعارف عليه، حيث جاء الفساد في القرآن بمعني أعم وأشمل، وهو خروج الشئ من وظيفته واستقامته، ونظرا لخطورته ورد في القرآن الكريم »05« آية تندد بالفساد وتبين عاقبته، كما وردت »42« آية في تحريم الاذي للآخرين، ومن هنا اعتبر الفساد في الاسلام من كبائر الذنوب، وهو محرم بإجماع العلماء لما يحدثه من أذي للمسلمين، وفي هذا يقول الله تعالي: »وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الأرض ان الله لا يحب المفسدين«، ويقول ايضا جل شأنه: »وإذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد«. وأكد د. المهدي ان أولي خطوات القضاء علي الفساد تتمثل في عودة التربية الدينية من جديد، والتي غيبت بفعل فاعل، بحيث نربي الاجيال الجديدة علي تعاليم الدين الحنيف التي تنهي عن الفحشاء والمنكر بكل صوره بها في ذلك اوجه الفساد المختلفة، ثم بعد ذلك تأتي التشريعات القانونية التي تستند إلي مبادئ الشريعة الإسلامية. إجراءات وقائية ومن جانب آخر أبدي د. حامد أبو طالب العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الازهر إحساسا بالصدمة من التفاصيل المرعبة التي كشفها تقرير هيئة الرقابة الإدارية عن حجم الفساد في مصر. د. أبو طالب قال ان الشريعة الإسلامية كان لها السبق في وضع اجراءات وقائية ضد الفساد بكافة صوره، حيث وضع الاسلام للفساد علاجين هما: علاج دنيوي يتمثل في العقوبات المقررة شرعا لكل جريمة بحسب صغرها وعظمها وخطرها، وعلاج أخروي وهو ما جاء به الشرع من الوعيد بالعقوبات الاخروية للمفسدين، وفي هذا يقول القرآن الكريم: »ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون«. وأوضح د. أبو طالب ان سياسة الإسلام في الرقابة علي الفساد مرت بتطورات عدة بدأت في العهد النبوي، حيث كان الرسول »صلي الله عليه وسلم« يراقب أداء الدولة، ويحمي الأمة من أي فساد، ثم توسعت الرقابة في عهد خلافة الراشدين فانشأ عمر بن الخطاب الدواوين، وفي عهد الدولة الاموية والعباسية أنشئت دواوين اخري مثل ديوان الحسبة والاستكشاف والبريد والاخبار، ولعل من أهم هذه الدواوين هو ديوان المظالم الذي نشأ لحماية الدولة من الفساد، بالإضافة لهذه الرقابة الادارية كانت هناك انواع اخري من الرقابة الوقائية أهمها الرقابة السيادية أو الرئاسية والرقابة الشرعية، وكان لهذه الانظمة مجتمعة دور كبير في حماية الدولة الاسلامية من انتشار الفساد. وقال د. أبو طالب: كما وضع الاسلام رؤية شاملة للإدارة احاطها بتشريعات وقائية ورقابية تمنع تطرق الفساد اليها، فقد اشترطت الشريعة الاسلامية فيمن يتولي أمرا من أمور المسلمين ان يتحلي بصفات الامانة والقوة والرفق والاحسان والنصح والابداع في خدمة المصلحة العامة، كما وضع الاسلام مبادئ عامة تقي من الوقوع في الفساد الإداري أهمها اختيار الكفاءات لشغل المناصب العامة ليكون الرجل المناسب في المكان المناسب. إصلاح الفساد يشدد د. يوسف قاسم استاذ الثقافة الاسلامية بجامعة الازهر علي ضرورة سن تشريعات صارمة من شأنها ان تحد من معدل الفساد المستشري في مصر، إلي جانب تعزيز دور الإعلام الحر ليفضح جرائم المفسدين داعيا إلي أخذ الرؤية الإسلامية عن الفساد في الاعتبار. وقال د. قاسم: لقد أولي الإسلام الحنيف عناية فائقة للقضاء علي الفساد لدرجة أن القرآن الكريم أطلق علي الفساد مصطلح »محاربة لله ورسوله« كما ذكر القرآن كلمة الفساد »05« مرة، منها قول الله تعالي: »فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الارض إلا قليلا ممن انجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين« وقوله أيضا: »وقال فرعون ذروني أقتل موسي وليدع ربه إني أخاف ان يبدل دينكم أوأن يظهر في الأرض الفساد«. ويضيف د. قاسم وفي مقابل الفساد ذكر الله تعالي الاصلاح بحيث لا نكتفي بأن نقضي علي الفساد، وإنما يجب علينا إلي جانب القضاء علي الفساد أن نبني المجتمعات والمؤسسات والهيئات، لذا تكررت كلمة الصلاح والاصلاح في القرآن أكثر من »051« مرة، ومن ضمن هذه الايات الكريمة قوله تعالي »ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها« والنهي هنا شامل لكل فساد أو أي ضرر يترتب علي تصرف انسان مسئول سواء كان رئيس الدولة أو وزيرا أو مديرا »كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته«. واجب شرعي ودعا د. عبدالحكم الصعيدي الاستاذ بجامعة الازهر إلي تضافر الجهود من أجل تدارك الموقف قبل ان يستفحل خطر الفساد ويهدد بناء المجتمع المصري، مؤكدا ان اصلاح الفساد سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو إداريا بات واجبا شرعيا، ومهمة وطنية يجب علي كل مواطن شريف المساهمة فيها. وشدد د. الصعيدي علي أهمية محاصرة المفاسد القائمة، ومنع ظهور مفاسد جديدة، مؤكدا ان هذا الامر من الممكن ان يتم من خلال الالتزام بالتدابير الوقائية التي وضعها الإسلام لمنع الفساد، ولعل أهمها غرس القيم الايمانية في سلوك الافراد حيث تعد هذه القيم اعظم وسيلة لتربية النفوس، ومنعها من الانحراف والفساد، وذلك من خلال ايجاد الرقابة الذاتية ويقظة الضمير وتنمية الدافع للعمل من اجل الصالح العام.