بعد أسبوع من المفاوضات, انتهت الدورة الثالثة والثلاثون لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة(اليونسكو) التي انعقدت في العاصمة باريس يوم 20 أكتوبر الجاري إلى تبني قانون الاستثناء الثقافي الذي شهد جدلا واسعا بين بلدان الاتحاد الأوروبي وبعض بلدان الجنوب , وبين الولاياتالمتحدةالأمريكية التي اعترضت على القانون, وجعلت من إفشاله مشروعها الأكبر لدعم هيمنتها الثقافية والسياسية على العالم. القانون المشار إليه حازعلى أصوات 148 دولة من أصل 191 دولة عضو في المنظمة, ليشكل ضربة موجعة للسيطرة الأمريكية على القنوات الثقافية في العالم, ورغبتها المتزايدة في اختراق الثقافات المحلية باسم العولمة التي ليست سوى اصطلاحا ناعما للأمركة, كما يتضح بشكل جلي في مجال الثقافة والوسائط السمعية البصرية والسينما. وشاءت المفارقات أن تكون إسرائيل هي الوحيدة التي ناصرت الموقف الأمريكي, بينما اختارت بعض البلدان الأخرى مثل نيكاراغوا وليبيريا والهندوراس وأوستراليا الامتناع عن التصويت, نتيجة خضوعها لضغوطات خفية في الكواليس. ولذا لم يكن غريبا أن تعنون سائر الصحف الإسبانية والفرنسية والأمريكية اللاتينية الناطقة بالإسبانية صفحاتها الأولى بعناوين تبشر بفشل مشروع الهيمنة الثقافية الأمريكية, مثلما فعلت "إيل باييس" كبرى الصحف الإسبانية عندما اعتبرت ما حصل في دورة اليونسكو بباريس"هزيمة هوليود", رمز الصورة الأمريكية النمطية في مختلف أرجاء العالم, وعنوان تفوقها الثقافي, ومختبر إنتاج الصور الثقافية وتوزيعها في العالم. حملة ديبلوماسية أمريكية أطلقت الولاياتالمتحدةالأمريكية قبيل انعقاد دورة اليونسكو يوم 17 أكتوبر الحالي حملة ديبلوماسية عنيفة, تمثلت في الهجوم على مشروع قانون"الاستثناء الثقافي" ومحاولة إسقاط التصويت عليه بالغالبية, مستعملة في ذلك كل وسائل الترغيب والتهريب, وهذا ما أقرت به "ليزا فراولا" وزيرة التراث الوطني في كندا التي أبدت اندهاشها كما اندهش الجميع ل"شراسة العدوانية الأمريكية" وعبرت المسؤولة الكندية عن استيائها من هجوم الصحافة اليمينية الأمريكية على القانون الجديد, خصوصا"الوول ستريت جورنال" التي وصفت الكنديين في دفاعهم عن الاستثناء الثقافي ب"زبانية الثقافة" في إشارة إلى ضباط"الجيستابو"(المخابرات الألمانية) على عهد النازيين, وأضافت الوزيرة الكندية في تصريحاتها أن الهجوم الأمريكي على القانون الذي انطلق منذ بدء المناقشات في دورة المنظمة"ينطلق مباشرة من البيت الأبيض", وأن كاتبة الدولة الأمريكية في الخارجية كوندوليزا رايس هي التي تتزعم هذه الحملة المنهجية. وقد ذهبت واشنطن إلى حد محاولة شن معركة لإدخال تعديلات عميقة على المشروع لإعاقة التصويت عليه أو تأجيله إلى عام 2007 ريثما تعبئ حلفاءها, ولذلك الغرض تقدمت الولاياتالمتحدة ب27 تعديلا على بنود القانون الذي يدعم الاستثناء الثقافي للدول الأعضاء ويمنحها حق توفير الحماية لثقافاتها المحلية وحق إغلاق الباب أمام المنتجات الثقافية الأجنبية. وكان الهدف من وراء كثرة التعديلات هو إفراغ المشروع من محتواه نهائيا. وأمام فشل جميع المناورات, لجأت الولاياتالمتحدة مجددا إلى التلويح بانسحابها من حظيرة منظمة اليونسكو فيما لو تمت المصادقة على القانون, مكررة بذلك ما حصل عام 1984 عندما انسحبت منها, ولم تعد إليها إلا عام 2003 بعدما أدركت أن نهاية الحرب الباردة ورهانات كسب الحرب على ما تدعوه بالإرهاب الدولي يفرضان تعزيز هيمنتها الثقافية في العالم وتسويق صورتها على الرأي العام الدولي. الاستثناء الثقافي ظهر هذا المصطلح قبل ثلاثة أعوام فقط, وذلك على لسان رئيس الحكومة الفرنسية جاك شيراك, في سياق المعركة بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكية على الجبهة الثقافية, وكانت باريس تعني به استثناء المنتجات الثقافية والفنية من القواعد والمعايير التي وضعتها منظمة التجارة العالمية في مؤتمرها الذي عقد بمدينة مراكش المغربية عام 1994. ففي ذلك المؤتمر تقرر إعطاء"فترة سماح" لأوروبا لمدة عشر سنوات في المجال الثقافي من أجل ترتيب وضعها الداخلي, ثم سرعان ما تم تمديد تلك الفترة خمس سنوات أخرى, في انتظار شمول معايير التجارة الدولية المفتوحة المجال الثقافي هو الآخر, فرفعت فرنساوكندا شعار الاستثناء الثقافي, وتبنتا قانونا جديدا بشأنه أمام منظمة اليونسكو, يسمح للسياسات الوطنية لكل الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية بدعم منتوجاتها الثقافية والفنية واستثنائه من حرية التجارة في إطار التبادل الحر الذي تبشر به العولمة, ورفض تحرير المجال السمعي البصري والحقل الثقافي, بحيث يصبح الاستثناء الثقافي حالة دائمة وليس لمجرد فترة سماح محددة. سياسة "الدومينو" وقد أدركت الولاياتالمتحدةالأمريكية أن المعركة ستكون حامية بداخل اليونسكو, وأن رهان الهيمنة الذي تريد الحفاظ عليه قد يصاب بضربة موجعة في حال حصول تحالف دولي ضدها مسنود من الاتحاد الأوروبي, المتخوف الأول من الهيمنة الأمريكية, فشرعت منذ سنوات في عقد اتفاقيات ثنائية مع عدد من بلدان الجنوب, بهدف إحداث مناطق للتبادل الحر الإعلامي, مثلما حصل مع المغرب ونيكاراغوا والهندوراس, وتجري حاليا مفاوضات مع أطراف أخرى في نفس الاتجاه مع كل من البيرو وكولومبيا والإكوادور وتايلاند, تطبيقا لسياسة"الدومينو" لإسقاط التحالف الدولي ضدها, والانفراد ببعض البلدان, مثلما فعلت لدى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية عندما بدأت في ممارسة الضغوط على بعض البلدان لتوقيع اتفاقيات منفردة معها تستثني فيها جنودها من الملاحقة الجنائية أمام المحكمة. التصديق على قانون الاستثناء الثقافي كان بمثابة انتصار كاسح على العجرفة الأمريكية وإنهاء لعصر الهيمنة وتثبيت للتعددية الثقافية, بحيث إن"جون موسيتيلي" عضو لجنة الخبراء الدوليين الذين صاغوا نص القانون قال بأن هذا الأخير"هو بالدرجة الأولى عملية سياسية, فلأول مرة تعلن المجموعة الدولية بشكل جماعي وموحد رغبتها في وضع حد لليبرالية التي لا حدود لها". لكن كسب التحدي ما تزال أمامه خطوات أخرى, إذ ما تزال هناك مرحلة أخرى قبل دخول القانون حيز التطبيق, وهو التصويت عليه من طرف ثلاثين دولة على الأقل, وهي عملية تبدو سهلة للغاية في ظل وجود 148 دولة مساندة له, لكن بعض المراقبين يرون أن هذا التحدي ليس متاحا ربحه, إذ إن الولاياتالمتحدة سوف تعمل كل ما في طاقتها من أجل الضغط على البلدان المؤيدة لنص القانون, وكذا توقيع اتفاقيات ثنائية مع بعض الدول الضعيفة والصغيرة أو الحليفة ,تتيح لها ترويج منتوجاتها الثقافية بكل حرية. المصدر : الإسلام اليوم