تقوم الأحكام المسبقة المستقرة فى أذهاننا بدور سلبى يعيق وصولنا للحق ويبعدنا عن العدل إذ تشكل هذه الأحكام المنظار القاتم الذى ننظر للعالم من خلاله، وتشدنا برباط وثيق يصعب التحرر منه.. الإنسان غالباً هو متبع للهوى بعيد عن الموضوعية والعدل وإن زعم حرصه على الحق إذ إن الناس فى أغلب نقاشاتهم يسعون لإثبات فرضيات مسبقة هم مؤمنون بها وليس لاكتشاف حقائق جديدة، فإذا عرضت عليهم أفكار جديدة سارعوا إلى رفضها ليس لعلة فى مضمونها بل لمجرد أنها مخالفة للأفكار السائدة "ما وجدوا عليه آباءهم". ألمس هذه الصعوبة حين تتضمن بعض مقالاتى أفكارًا خارجةً عن الخط العام فيسارع فريق إلى مجادلتى فى بطلانها دون أن يأخذ وقتًا فى التفكر فى محتواها الموضوعى مستندًا فى ذلك لفرضية مسبقة راسخة فى أعماق وعيه بأن كل فكرة جديدة هى بالضرورة خاطئة وأن الواقع الحالى الذى وجدنا عليه آباءنا هو الطريقة المثلى وهو الحق الذى ليس بعده إلا الضلال، ثم يجتهد بعد ذلك فى انتقاء الحجج والبراهين لإلباس رفضه لباس العلم والموضوعية. لكن الحقيقة أنه رفض للأفكار الجديدة لمجرد أنها جديدة.. إدراكى لهذه الحقيقة يجعلنى مستمسكًا بأفكارى التى قام عليها عندى برهان غير مبال بالهجوم الشرس لأننى مدرك بأن رفض أكثر الناس غير مبنى على تفكر موضوعى ومحاكمة عقلية عادلة.. إن ما يفعله أكثر الناس هو أنهم يبحثون بحثًا انتقائيًا فى الأدلة لتثبيت واقعهم ولترسيخ شرعية أفكارهم المتوارثة ولإدانة ما يخالفها فلا يقفون على مسافة واحدة مما ألفوه ومما لم يألفوه للوصول إلى الحقيقة المجردة، لذا فقد رأى عالم الاجتماع العراقى على الوردى بأن الدماغ البشرى لا يزيد عن كونه وسيلةً للبقاء مثله مثل خرطوم الفيل وناب الأسد يقصد الإنسان باستعماله الدفاع عن نفسه وليس الاهتداء إلى الحق. يضرب لنا القرآن الكريم مثلاً تتضح فيه هذه الطبيعة البشرية التى يتصف بها أكثر الناس خاصةً من عامة الجماهير الذين لا يكلفون أنفسهم عناء التفكير، ففى قصة موسى والسحرة يقول الله تعالى:"وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ * لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ".. كان مقتضى العدل أن يقال دعونا نجتمع لنرى حجة الفريقين فأيهما كان على حق اتبعناه لكن أسر المعتقدات الراسخة أعماهم عن رؤية الحق خارج إطار دين فرعون وسحرته الذى ألفوه عن آبائهم فهم لا يتصورون أن يكون الحق إلا مع السحرة، وما اجتماعهم إلا لإثبات فرضية مسبقة عندهم وليس فى وارد الحسبان أن يأتى الحق سوى بتأكيد هذه الفرضية.. هكذا هو حال أكثر الناس مثل حال آل فرعون يبيعون شعارات العلم والحق والموضوعية والتجرد، لكنهم أسروا أنفسهم داخل أسوار محكمة فعميت أعينهم وصمت آذانهم عن رؤية شمس الحقيقة الساطعة خارج هذه الأسوار وإذا أتيتهم بكل آية ما كانوا ليؤمنوا.. قلما ومن الصعوبة أن يصل الإنسان إلى حالة التجرد الكامل التى يتخلى فيها عن فرضياته وأحكامه المسبقة ويلقى السمع وهو شهيد ليستمع إلى الجديد ويطالب القائلين به ببرهانهم "قل هاتوا برهانكم" دون المسارعة إلى الرفض المبدئى. وفى هذه الحالة النادرة وحدها يكون الإنسان مهيئًا للاهتداء إلى الحق لذا يقرر القرآن أن أكثرهم للحق كارهون.. سبب صعوبة انعتاق الناس من أحكامهم المسبقة هو أن الاستقرار على الأفكار المألوفة أقرب للهوى وأقل تكلفةً من اعتناق دين جديد فهذا بحاجة إلى جهد شاق وإقلاع ضد الجاذبية.. كما أننا نجد صعوبةً فى التخلى عن الأحكام المسبقة لأننا ربطنا كياننا ووجودنا بأفكارنا فقدسناها وصرنا ننظر إلى أى هجوم يستهدف قناعاتنا بأنه يستهدفنا شخصيًا ولو عقلنا لدرنا مع الحق حيث دار، ولحافظنا على مسافة فاصلة بين أشخاصنا وأفكارنا فلم نجد حرجًا فى التخلى عن أفكارنا حين يأتى البرهان ببطلانها. إن تحريك العقول وتعويدها على الخروج عن المألوفات وحده الكفيل بتقريبنا من العلم والموضوعية. والله الهادى إلى سواء السبيل. -كاتب من غزة [email protected]