أثار اعتزام فضائيات عربية بث مسلسل يجسد شخصية عمر بن الخطاب وشخصيات الصحابة المبشرين بالجنة ضجةً هائلةً تراوحت بين الترحيب بهذا العمل الدرامى والإنكار الشديد عليه باعتبار هذا التجسيد مسًا بمكانة الرموز والأعلام وإهانةً لهم.. تجسيد الرموز الدينية فى المسلسلات سنة سبقت إليها الدراما الإيرانية التى أنتجت عددًا من المسلسلات جسدت فيها شخصيات الأنبياء كان أبرزها تجسيد شخصية يوسف عليه السلام وأبيه يعقوب بل وحتى تجسيد جبريل عليه السلام. لن أتناول هنا مسألة تجسيد أشخاص الصحابة والأنبياء من زاوية الإباحة أو التحريم، بل سأتناولها من ناحية فنية إخراجية بحتة، وهل تجسيد هذه الشخصيات يساهم فى خدمة العمل الفنى وإخراجه بطريقة أفضل أم أنه يؤثر سلبًا فى وصول فكرة العمل لقلب المشاهد وعقله. حين تصور شخصًا أو تنحته فإنك تضع له شكلاً محددًا ينطبع فى مخيلة المشاهد وبذلك تحرم المشاهد من فضاء الخيال الواسع الذى كان يتمتع به في النظر إلى هذه الشخصية فهو لن يكون قادرًا بعد ذلك على تصور هذه الشخصية خارج حدود القالب الذى وضع له، وهذا ما نراه مثلاً فى فيلم عمر المختار، فبمجرد ذكر اسم هذه الشخصية تتبادر إلى الذهن صورة الممثل الأمريكى أنتونى كوين الذى جسد دور عمر المختار في الفيلم المشهور فغطت شهرته على الصورة الحقيقية لعمر المختار، وحتى حين يرى أحدنا صورة عمر المختار الحقيقية فإنه سيجد صعوبةً فى إحلالها فى ذهنه محل صورة أنتونى كويني المنطبعة فى ذاكرته بعد أن ترسخت بالتكرار.. أما حين لا تظهر شخصية البطل فى المسلسل فإن ذلك يحيطها بهالة من الأهمية ويساعد خفاؤها فى شد ذهن المشاهد لمحاولة تخيلها وينطلق عنان فكره فى كل اتجاه مما يساهم في إثراء خياله وتوسيع أفقه ويحافظ على بقاء فكره متحررًا من أى قوالب محددة لانطلاقته.. كذلك حين يحاول أحد الفنانين تصوير الجنة أو النار أو القبر فإنه مهما أوتى من سعة خيال وقدرة تصويرية فإنه في النهاية سيفرض على خيالك حدودًا لا تتجاوزها، وبذلك سيضر الفكرة من حيث ظن أنه سيخدمها، فهو مهما تفتق ذهنه عن رسم حيات ونيران وأهوال فإن خياله سيظل محدودًا وستظل الصورة الحقيقية أعظم من ذلك، ومن شأن بقاء الصورة الحقيقية خافيةً أن يتيح المجال واسعًا أمام خيال الإنسان للذهاب إلى أبعد مدى يستطيع أن يذهب إليه.. لعلنا هنا نفهم جانبًا من حكمة تحريم النحت والتصوير فى الإسلام، فعدم نحت الأشياء يغذى خيالنا ويجعله أكثر خصوبةً ويحرره من التقييد والتأطير.. لقد تفطن الروائى الكولومبى المشهور والحائز على جائزة نوبل فى الآداب غاربرييل غارسيا ماركيز إلى هذه الحقيقة فرفض عروضًا لتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية معللاً هذا الرفض بالقول:"أنا أفضل أن يتخيل قارئ كتابى الشخصيات كما يحلو له.أن يرسم ملامحها مثلما يريد. أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة هى أشكال الممثلين وليست تلك الشخصيات التى يمكن أن يتخيلها المرء أثناء القراءة.. والله الهادى إلى سواء السبيل.. [email protected]