كتب المستشار الراحل يحيى الرفاعى، شيخ القضاة ومؤسس تيار الاستقلال معلقًا على سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء مقالاً بعنوان ((جرجرة)) قال فيه: ((فى بعض بلاد العالم يصبح القاضى المتمسك باستقلاله كالقابض على الجمر... فلا يستطيع أن يعلن حكمًا تستاء منه الحكومة قبل أن يراجع نفسه آلاف المرات، فليس صحيحًا على إطلاقه أنه لا سلطان على القضاء إلا للقانون وضمائرهم، فالسلاطين كثير. وفى هذا المناخ لابد أن يشك الناس فى استقلال القرار القضائى سواء من حيث مضمونه أو توقيته. فقد نشرت روز اليوسف بعدد 15 يوليو 2000 حوارًا شيقًا مع الأستاذ الدكتور رئيس مجلس الشعب، جاء فيه أنه كان يتوقع صدور الحكم بعدم الدستورية محل التعليق وأن تقرير المفوضين كان مُعدًا منذ ست سنوات وأنه فى الاجتماعات المغلقة التى ترأسها الرئيس مبارك نوقش توقيت الحكم، فسأله المحرر: (كلامك يعنى أنه كان هناك اتفاق بينكم وبين المحكمة الدستورية العليا لإصدار الحكم فى هذا التوقيت حرصًا على الصالح العام من وجهة نظركم وذلك بدلا من صدوره أثناء انعقاد المجلس...ما رأيك؟) فأجاب سيادته: لن أزيد على ذلك ولا تجرجرنى.. المحكمة الدستورية راعت المصالحة العامة ومتطلبات الاستقرار السياسى. كتب المستشار الرفاعى هذا الكلام تعليقًا على حكم المحكمة الدستورية الصادر فى 8 يوليو 2000 ببطلان مجلس الشعب لبطلان قانون الانتخابات، بعد ست سنوات من رفع الدعوى أمامها، بعد أن سمح مبارك بإصداره. *** وتحت عنوان "أهمية الثقة العامة فى القضاء" كتب الرفاعى يقول ((ولا مراء فى أن غياب الثقة العامة فى القضاء والقضاة، لا يؤدى فقط إلى عودة العنف وتفشى الظلم والفساد والكساد والتخلف، وإنما يؤدى كذلك إلى انحلال جميع الروابط الاجتماعية والقيم الأخلاقية وشيوع البلطجة وانهيار القانون وتقويض دعائم الحكم. صفوة القول إنه بغير قضاء كفء ومستقل تمامًا إداريًا وماليًا عن السلطتين الأخريين، وموثوق به تبعًا لذلك، تتعرى حقوق المواطنين من الحماية القضائية، ويفسد تكوين السلطة التشريعية، وتتغول السلطة التنفيذية السلطتين الأخريين، وتنعدم حريات المواطنين وحقوقهم العامة الخاصة، ومن باب أولى يكون الحديث عن نزاهة الانتخابات أو الاستقرار السياسى أو الإصلاح الاقتصادى أو الدولة العصرية حديثًا للتلهى والتضليل والخداع ومضيعة الوقت. ومن هنا قام حق الأمة فى أن تتعرف بكل دقة على أحوال قضائها وقضاتها كما تتعرف على أحوال جيشها ورجاله وقدرته على حماية الوطن. ومن هنا أيضًا كان الدفاع عن استقلال القضاء فى كل فقه وفى كل الإعلانات العالمية؛ لهذا الاستقلال هو واجب الأمة بأسرها وواجب كل فرد فيها لأنهم يدافعون بذلك عن حرياتهم وشرعهم وسائر حقوقهم وحرماتهم. *** وفى موضع آخر كتب ((كيف يقال إن القضاء عندنا مستقل والقضاة مستقلون، لمجرد النص على ذلك فى الدستور، فى حين أن كل شئون القضاء والقضاة الإدارية والمالية بل الصحية والاجتماعية.. بيد وزير العدل أى بيد السلطة التنفيذية. بل إن إدارة التفتيش القضائى التى تحاسب القضاة فنيًا وإداريًا وتأديبيًا وتمسك بزمام ترقياتهم وتنقلاتهم وانتداباتهم وإعاراتهم ومكافآتهم بالعمل الإضافى، هى جزء من مكتب الوزير أى جزء لا يتجزأ من السلطة التنفيذية. *** ولقد ترأس المستشار يحيى الرفاعى مؤتمر العدالة الأول عام 1986 حين كان رئيسًا بحق لنادى القضاة، وهو المؤتمر الذى قدم تصورًا كاملاً لاستقلال القضاء ومن توصياته ما يلى: (( إسناد الرقابة على دستورية القوانين واللوائح إلى إحدى هيئتى محكمة النقض المنصوص عليهما فى المادة الرابعة من قانون السلطة القضائية بحسب الأحوال، وإعادة سائر اختصاصات المحكمة الدستورية العليا إلى القضاء وهو ما يستتبع إلغاء الفصل الخامس من الدستور وقانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48 لسنة 1979 إذ لا مبرر لقيام هذه المحكمة فى دولة موحدة)). *** وفى نهاية هذه السطور القليلة التى أخذناها من رسائل التحذير الكثيرة التى أطلقها شيخ المناضلين مبكرًا من أجل استقلال القضاء، والتى حملها بعده الجيل الحالى من القضاة الشرفاء الذين تصدوا لنظام مبارك من خلال ناديهم برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز، وكانوا رأس حربة فى مواجهته، مما عجل بسقوطه، وذلك قبل أن تحاصرهم الدولة وتنقض عليهم لإنجاح قائمة المستشار الزند فى انتخابات نادى القضاة مرتين: الأولى قبل الثورة فى 13 فبراير 2009، والثانية، ويا للعجب، بعد الثورة فى 24 مارس 2012.. فى نهاية هذه السطور، نقول إنه قد آن الأوان أن نضع معركة تحرير القضاء وتطهيره، على رأس أولوياتنا بعدما رأينا، فى أكثر من مناسبة، كيف يمكن أن يكون القضاء التابع والمخترق والمقيد، سلاحًا بتارًا فى وجه الثورة والثوار. [email protected]