لست ضليعة بعمق فى الشئون القانونية لأقرر بصورة قاطعة كما يحاول بعض غير القانونيين الاجتهاد منذ أيام لتحديد مَن المختص من محاكمنا المبجلة بحل البرلمان أو عدم حله وعودته، وأفضل دومًا فى الشئون القانونية البحتة أن أترك "العيش لخبازينه" وأقول الشئون القانونية البحتة، وليست القانونية المسيسة أو القانونية "الموائمة"، فما تعيشه مصر مؤخرًا من فوضى قانونية وتداخل فى اختصاصات المحاكم هو إفراز لعهد تداخلت فيه كل الأمور وتشابكت وتعقدت لتصب فى النهاية فى بوتقة "خدمة النظام الحاكم"، فالتداخل القانونى وتشابك اختصاصات المحاكم أو تعارضها أمر لا يمكن أن تراه فى أى دولة من دول العالم لا المتحضر ولا المتخلف حتى فى أقاصى المعمورة. فدومًا ما يضع المشرع القانون، أى قانون بصورة واضحة لا تقبل بنوده اللبس أو المزايدة أو التفسيرات والتأويلات التى تخدم فئة فى المجتمع دون أخرى أو تكون تحت إمرة النظام الحاكم، وذلك ضمانًا للعدل الذى هو أساس الحكم، كما يتم تحديد أدوار أو اختصاصات المحاكم فى المنظومة القضائية بصورة واضحة، لا يمكن معها ضرب محكمة بأخرى أو حكم بآخر، أو دفع القضاة إلى صراع قانونى حول الاختصاص من عدمه. إن الجدل القانونى الدائر الآن والتعارض المستعر بين الرئاسة وفقهاء القانون والقضاء الذين انقسموا شيعًا حول اختصاص الدستورية أو اختصاص محكمة النقض أو محكمة القضاء الإدارى إنما يكشف عوارًا وثغرات هائلة فى المنظومة القضائية ككل، ويجسد تعارضًا مع المبادئ المستقرة سياسيًا ودستوريًا وقضائيًا، ومع مبدأ الفصل بين السلطات أى بين السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية (الإدارية). إن إعادة هيكلة وتنظيم العدالة والقضاء والفصل الواضح بين السلطات وتحديد اختصاصات المحاكم بدقة دون تداخل أصبح الآن أمرًا حتميًا وضروريًا لعلاج الإشكالية الخطيرة التى فرضت نفسها علينا مؤخرًا، هيكلة يجب أن تكون بعيدة عن الأيديولوجيات والأجندات والرؤى الشخصية لهذا أو ذاك، تحمى المحاكم من تسييس القانون وتسييس القصاص أو إصدار أحكام "الموائمة" السياسية، وتحمى السلطة القضائية من المساس بها أو الضغط عليها، أو محاولات تسييسها، فما نعايشه الآن من فوضى قضائية وقانونية إنما يمثل ضربة قوية للاستقرار القانونى والقضائى، وسيدفع الشعب المصرى ثمنه غاليًا من استقراره وحياته ومستواه الاقتصادى، فما الذنب الذى ارتكبه الشعب ليعيش هذا الصراع على السلطة ومحاولة فرض النفوذ أو إثبات القوة؟، لقد دفع الشعب ثمن الثورة ودفع ثمن الحلم، وخرج بقلوب مفتوحة إلى صناديق الانتخابات ثلاث مرات، مرة للبرلمان ومرتين للرئاسة، وأمام عينيه مستقبل يتمنى أن يكون أفضل له ولمصر، مستقبل أفضل مما عاشته مصر على مدى ثلاثة أجيال، ولا يجب أن نترك مصير الثورة أو حلم الديمقراطية الوليد ريشة فى مهب ريح الصراعات السلطوية، مصر بحاجة الآن إلى قوى وطنية لحل الإشكالية، تحتاج من الجميع أن يقدم التنازلات السلطوية، ولا أقول القانونية، لأننا لو أهدرنا القانون لأهدرنا قلب وقوة وهيبة الدولة، نعم مصر تحتاج من الجميع تنازلات سلطوية للوصول إلى وفاق وطنى يخرج مصر بسرعة من الأزمة دون تأجيلات، وإلا سنبقى طويلاً فى هذا الجدل القانونى ومن ثم الجدل الدستورى للخروج بالدستور الجديد، ومن ثم لن يتم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة وستبقى مصر فى هذا الفراغ الدستورى والتخبط القانونى طويلاً لنصل إلى نقطة سيكون الجميع فيها خاسرًا، وسيكون الرجوع مستحيلاً، لأننا سنقدم مصر على طبق من ذهب لكل أعدائها من الداخل والخارج.