كشفت الأحداث الطائفية التي شهدتها محافظة الإسكندرية مؤخرا ان العلاقة بين المسلمين والأقباط ليست علي ما يرام، وان المعالجة التلفزيونية المعتمدة طوال الفترة الماضية، لم تنجح في إزالة الاحتقان، و نزع ما في قلوبهم من غل، ليصبحوا اخوانا. فلا يزال ما في القلب في القلب علي الرغم من هذه المعالجة الصاخبة، وما في القلوب يحول دون ان يجعل من الطرفين نسيجاً واحداً، كما تقول الدعاية عندما تقع مثل هذه الحوادث!. أقصد بالمعالجة التلفزيونية هي تلك التي تهتم بالشكل، والتي تهدف الي حل المشكلات بالفتاكة المصرية المعروفة، وبالتصور بأنه بالإمكان إزالة أثار الاختلاف بشعار، أو أغنية، أو نشيد، لنصبح بعدها: صافي يا لبن، حليب يا قشطة! وأصل الحكاية في حادث الإسكندرية ان كنيسة مارجرجس أنتجت مسرحية منذ عامين، حملت عنوان: كنت أعمي.. والآن أبصرت ، وهي تحكي قصة مسيحي أشهر إسلامه، ثم أبصر باكتشافه الحق، وعودته الي ديانته الأولي، وقد حملت المسرحية، والعهدة علي من رأوها، ولم ينف ما ذكروه أحد، هجوماً كاسحاً ضد الإسلام، وتطاولاً فظاً ضد تعاليمه، بشكل مثل تجريحا في العقيدة الإسلامية. وبعد سنتين من عرض هذه المسرحية بالكنيسة المذكورة، فوجيء الجميع بنسخها علي سي دي وتوزيعها، ثم حدث ان نشرت إحدي الصحف الخاصة جانبا مما جاء فيها، فخرجت المظاهرات في منطقة محرم بك بالإسكندرية تريد ان تعتدي علي الكنيسة المنتجة والعارضة، وقد تصدت أجهزة الأمن للمتظاهرين، وألقت القبض علي مجموعة منهم وقدمتهم للنيابة العامة، لتتخذ الإجراء القانوني حيالهم!. وكنت أظن ان ما جري سيدفعنا إلي مناقشة الأمر بعقلانية، بعد أن تأكد فشل المعالجة التلفزيونية، لكن ثبت لي ان ما تمنيته كان وهماً، فقد تم التعامل مع الأمور بفهلوة، كما هي العادة، وفي هذا المناخ ضاع أصل الحكاية وانسقنا وراء أسلوب أناشيد الصباح المدرسية، التي حفظناها، ومن ترديدها مللناها. فقد درجنا علي ان يستعرض الكتاب ذكرياتهم العطرة في طفولتهم وهم تلاميذ في المدارس الابتدائية، وكيف ان زملاءهم كانوا من المسيحيين، ولم يكونوا يعرفون ذلك، علي الرغم من ان أسماءهم جرجس، وبطرس، ومتي، وكيف ان أم جرجس كانت تحب كاتبنا كما تحب ابنه، وكيف أن أم بطرس حزنت حتي ماتت لوفاة أم الكاتب، الي غير هذا من محفوظات ، تدخل في باب المقرر الدراسي في مثل هذه الأحداث، وهي تشبه الصفحات الدينية التي تنشرها صحفنا في شهر رمضان، وهي في العادة مكررة ويتم نشرها في كل رمضان، كما تعد شبيهة بالموضوعات الصحفية الموسمية الأخري: ففي عيد الفطر.. احذروا الكعك، وفي شم النسيم: أطنان من الفسيخ الفاسد في الأسواق، وفي عيد الأضحي: لا تكثروا من أكل اللحوم حتي لا تصابوا بانفلونزا الطيور، الي غير هذا من قضايا خاصة بالمناسبات باتت مملة، والهدف من نشرها هو ملء الصفحات البيضاء للصحف بالحبر الأسود!. وتحت هذه القائمة تندرج مقالات كتابنا الأشاوس، والتي ثبت بالأدلة القاطعة أنها لا تعالج ما يحدث بشكل جاد، غير انها طريقة مضمونة لا تغضب أيا من الأطراف بما في ذلك الطرف الحكومي!. هذا من ناحية، ومن ناحية أخري، فكتاب مثل الدكتور سعد الدين إبراهيم، الذين يهتمون بقضايا الأقليات، نجدهم يرددون اسطوانة واحدة مشروخة، هي الخاصة باضطهاد الأقباط في مصر، ويعيدون ويزيدون في هذا الموضوع لا يبرحونه.. تابع ما كتبه المذكور حول حادث الإسكندرية، وسوف تكتشف انها نفس الطريقة التي عالج بها أحداث الكشح، واعتداءات بعض العناصر المسلمة علي الأقباط. فالدكتور سعد يبدو متمسكا بالموضوعية في كل ما يكتب، إلا عندما يكون الأمر خاصا بالأقليات، فإن الموضوعية تهرب منه، ولا يبذل أي جهد من أجل إعادتها الي قلمه!. دعك من كتابات رئيس حزب التجمع رفعت السعيد، فالرجل لا يلتزم بالموضوعية في كل ما يكتب، وبالتالي فليس من المطلوب ان ننتظرها منه هنا، وقضية الأقباط أصبحت سبوبة ، وتجارة لا تبور!. ان من يطالع ما كتبه سعد الدين إبراهيم ومن هم علي شاكلته، يكتشف أنهم نسوا تماما أسباب المشكلة، فالأحداث لا تبدأ بقصة المسرحية، ولكن بمحاولة الاعتداء علي كنيسة مار جرجس، ومن يبدأ بالأحداث من هذه النقطة يبدد وقته ووقت القاريء، في محاولة التعرف علي الجهة التي تقف وراء النسخ المدمجة للمسرحية، وفي التوصل لتحديد الجهة المحرضة علي نشر جانب من وقائعها في الصحيفة الخاصة! ولكي نطوي هذا الملف فإنني أسلم بأن تظاهر المسلمين الغاضبين أمام كنيسة مارجرجس ليس له ما يبرره، وهو تعبير متطرف عن الغضب، فقد كان أمامهم للتعبير عما مس عقيدتهم من تطاول، بأن يذهبوا مثلا الي ضريح السيدة زينب ليكنسوه، ضد الظالم والمفتري وابن الحرام. وأسلم ابتداء بأن الصحيفة الخاصة قد ارتكبت حماقة بما نشرت، لاسيما وانني من الذين لا يستطيعون ان يسلموا ببساطة بأن النشر تم لدوافع صحفية، ولا استبعد ان تكون الجهات التي وصفها الأنبا مرقص كاهن الكنيسة المعلقة ب المعينة وراء هذا النشر، يعزز من هذا الإحساس ان رئيس تحرير هذه الجريدة هو في الوقت نفسه رئيس تحرير مجلة الشرطة ، فضلا عن ان الجهات المعينة لها سوابق في هذا الصدد، واعتقد انه من المستقر عليه أنها كانت وراء نشر فضيحة الراهب المشلوح، المتهم بمضاجعة النساء في مدبح الكنيسة، وقد نشرتها صحيفة خاصة أيضا!. لكن أليس تسليما بهذا لا ينبغي ان يدفعنا لتجاهل جسم الجريمة، ورأس الفتنة، والذي تمثل في هذه المسرحية التي أساءت للدين الإسلامي وطعنت في عقيدة غالبية الشعب المصري .. ولم تكن عملا فرديا من متطرف او موتور، لكن تقف وراءه كنيسة معتبرة هي التي أنتجت المسرحية وعرضتها!. لقد دعت حركة كفاية لمظاهرة تضامنا مع الوحدة الوطنية، وقد شاركت فيها متأخرا عن الموعد المحدد بأكثر من ساعة، وقد وجدت أحد الشباب يصيح بصوت جهوري، ان البيان الذي تم توزيعه باسم حزب الغد، لا يعبر عن الحزب، لأنه ليس عليه لوجو الحزب. وعندما تساءلت عن أمر هذا البيان، تطوع أحد الزملاء الصحفيين وأعطاه لي، لأكتشف انه يدعو البابا شنودة للاعتذار، وعندها أيقنت ان من وزع هذا البيان لا يخرج عن جهتين: الجهة المعينة إياها، وقد تكون قد هدفت الي تشويه الحزب الوليد الذي يجد مناصرة من بعض الأقباط. او الفرقة المنشقة عن الحزب بأوامر من الجهات المعينة أيضا!. ولم أنشغل بهذا كله، فقد تساءلت: وما الجريمة في البيان، وتطوع أحد شباب الصحفيين الأقباط وقال لي بحدة واستنكار: ان البيان يطالب البابا بالاعتذار، وعلي الرغم من انه كان قد قدمني لأحد الزملاء منذ قليل بأنني أستاذه، وانني قيمة، الي غير هذا من عبارات المديح التي لم أتمكن من سماعها كاملة بحكم الزحام، لكن تسرب الي نفسي إحساس بأنني لست أستاذه فقط، بل انني أستاذ الجيل، علي الرغم من هذا وجدتني أسأله في حدة: ولماذا لا يعتذر البابا !.. واندهش الفتي من سؤالي وتساءل باندهاش: يعتذر ! ولسان حاله يقول: ياللهول!. عندها سألته عن حقيقة المسرحية، فقال: لقد حدث هذا منذ عامين، قلت ولو بعد مائة عام، من أخطأ في حق الآخر يعتذر له، واختفي الزميل في الزحام، ومن المؤكد انه تراجع عن كل عبارات التفخيم التي امتدحني بها منذ قليل حتي ظننت انني أعظم كاتب في العالم العربي. لم يكن الجو يحتمل ما قلته، فالمتظاهرون معظمهم من فلول الشيوعية الذين جار عليهم الزمان، وهم يبحثون عن قضايا يتبنون الدفاع عنها في زمن الانهيارات الكبري لأفكارهم، ولأن الجو كان علي هذا النحو، فقد فهمت أسباب انشغال زملائي بحثي علي التخفيف من الحدة في الرد علي الزميل القبطي، وبعد ان انتهي الحوار، وجدتهم يقولون: لم نكن نظن أنك علي هذه الدرجة من التطرف .. وهذا بصراحة هو بيت القصيد، فعلي الرغم من أن المسألة يمكن ان تدخل في مجال الحقوق، إلا ان الحق أصبح تعبيرا عن التطرف، وربما كان هذا هو السبب وراء لجوء البعض الي أسلوب المعالجة التلفزيونية، وقفز البعض الآخر الي مناقشة ما جري من مظاهرة الغضب ، وليس من انتاج المسرحية وعرضها، لأن البداية الحقيقية، ربما تفتح الأعين علي التطرف المسيحي، وهو تطرف رسمي تبنته الكنيسة، كما في حالة المسرحية، اما البداية الثانية فإنها تؤكد علي إجرام الأغلبية في حق الأقليات، الأمر الذييرضي البيت الأبيض، ويرضي أقباط المهجر، وقبل هذا وبعده، يضمن تدفق المعونات والمنح للمراكز البحثية التي تهتم بالوقوف في مواجهة الاضطهاد الموجه ضد المسيحيين في مصر!. ان البداية الحقيقية للأحداث كانت بأن هناك مسرحية عرضت، وكنيسة أنتجت، وعقيدة تمت الإساءة إليها، وهذا مجرم بحكم القانون، ويصبح كون العرض حصل لمرة واحدة ومنذ سنتين لا يغير في طبائع الأشياء، ويصبح بالتالي هذا أمراً ينبغي ان يتم النظر إليه بمعزل عن الجهات المعينة التي حرضت علي النشر، فإذا كان لنا أن ندين هذا التصرف ونستهجنه، فإنه من واجبنا أيضا ألا نتجاهل من أمد هذه الجهات بالمادة الخام، لتنفث بها عن أغراضها. لقد قيل إن البابا شنودة لم يعلم بأمر هذه المسرحية، وأنا أصدقه، لكن كان من الضروري ان يشكل لجنة تحقيق لتقف علي حقيقة ما نسب إليها، فاذا كانت قد احتوت علي ما تردد، فإن اعتذاره حق لمن تم التعريض بعقيدتهم، وذلك بدلا من اللف والدوران، والفر والقفز، ومحاكمة النتائج، دون النظر الي الأسباب. ان من أخطأ عليه ان يعتذر، ان كنا فعلا نعمل من أجل نزع فتيل الأزمة، لنصبح حقا صافي يا لبن حليب يا قشطة، ليس أمام شاشات التلفزيون فقط، ولكن في الواقع أيضا! ----- صحيفة الراية القطرية في 16 -11 -22005