أعرف مستشفى بنها الجامعي، زرته قبل سنوات لعيادة مريض، كانت حالته معقولة، لست في حاجة للبحث لمعرفة الحال الذي وصل إليه المستشفى اليوم، فالكارثة التي شهدها عصر الأربعاء كافية للتدليل على مستوى الإهمال الذي يضرب المستشفى، وكل مستشفى جامعي، وعام، ومركزي، ووحدات صحية في الأرياف. قطاع الصحة الحكومي في حالة مزرية، وحينما كان الدكتور حسام عيسى وزيراً للتعليم العالي في حكومة حازم الببلاوي التي تشكلت عقب عزل الرئيس مرسي قال مذهولاً إنه لا يصدق ما وصلت إليه أوضاع المستشفيات التعليمية من تردي، وأشار إلى الفساد الذي ينخر فيها، مثلما ينخر في كل شبر في البلاد. سقط أحد المصاعد في المستشفى بمن كانوا فيه من زوار المرضى من الدور السابع، وكانت النتيجة استشهاد 7 مواطنين، وإصابة 4 آخرين، ولم أكن في حاجة لمعرفة القرى والمناطق التي يعيشون فيها للتيقن من أنهم من أهالينا الطيبين، فالمستشفى لا يذهب إليه للعلاج مضطراً إلا الفقراء ومتوسطي الحال، لا يقدرون على تدبير نفقات العلاج في مستشفيات خاصة راقية، ولا أقل من ذلك. العلاج صار أبشع من تجارة المخدرات، يمكن لمن يتعاطى المخدرات أن يتوقف عنها بمبادرة شخصية، لكن لا يمكن للمريض أن يتحمل ألمه، أو يعالج نفسه بنفسه، مجتمع الطب في مصر من أطباء في عيادات خاصة، ومستشفيات، ومراكز، صارت أماكن للتجارة التي لا ترحم مريضاً ولا فقيراً، هدفها الابتزاز دون رحمة، صار مجتمعاً شيطانياً، لا ملائكياً. المجتمع كله ضربه فيروس الاستغلال البشع والجشع، ليست هذه مصر التي كانت في السابق، هذه مصر أخرى تعكس حالة الأزمة العميقة، والتراجع الأعمق في تقدير الإنسان وتكريمه، مصر حلم يناير، ويونيو في الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية تتبدد. في جريمة مستشفى بنها يجب أن تتم المحاسبة السياسية بالتزامن مع المحاسبة الجنائية، فلا يجب أن تفلت المستويات التنفيذية والسياسية من العقاب الأدبي والمعنوي بمبرر أنهم يتحملون مسؤوليات عمومية، ليس معنى أنهم بعيدون عن المسؤولية المباشرة أن ينالوا صك براءة كامل في مختلف الجرائم التي يتعرض لها المواطنون وتوجه التهمة في النهاية لصغار العمال والموظفين . ما فائدة وجود مسؤول تنفيذي كبير في محافظته؟، وما فائدة وجود رئيس للجامعة، وعميد لكلية الطب التابع لهما المستشفى، وفوقهما وزير للتعليم العالي؟، ما لم يُحاسبوا جميعاً فإن الحوادث لن تتوقف، غياب ثقافة المحاسبة التي تطال الرؤوس الكبيرة قبل الصغيرة وراء شيوع سلوك الاهمال القاتل في مصر ولمصر. التقدير الأولي أن حمولة المصعد كانت زائدة، وهذا يعني عدم وجود عامل دائم داخل المصعد يمنع العدد الزائد من الركوب، ولا يمكن الرهان على المسؤولية الذاتية للمواطنين، وعلى حسابهم للمخاطر، فالمواطن هو الآخر جزء من ثقافة اللامبالاة العامة، والمنظومة كلها فاسدة. وهناك حديث عن تلف الأسلاك التي تحمل المصعد، وقد تمزقت فسقط أرضاً مخلفاً الضحايا، والسبب المباشر في ذلك غياب الصيانة، وهي جوهرية للغاية، ولا يمكن غض الطرف بشأنها ولو لساعات قلائل لأن المصاعد معلقة في الهواء وتحمل أرواحاً، وهذا غالباً سبب الكارثة، الصيانة والعناية والاهتمام قيم مفتقدة في كثير من المرافق في البلاد، مثلاً ينتهي تنفيذ طريق فيكون جميلاً عند افتتاحه ثم مع مرور الأيام يبدأ في التحول إلى شيء بشع بسبب غياب الصيانة والاعتناء به، وعند افتتاح مبنى جديداً لأي خدمة أو مصلحة يأخذك الإعجاب به ثم عندما تذهب إليه بعد فترة تجده مبنى آخر ينتمي إلى العصور الوسطى، لأكثر من عشر سنوات أذهب إلى مبنى لإحدى الخدمات في عاصمة عربية، فلم أجد تراجعاً في مستوى جمال ونظافة المكان، أما الخدمة فتزداد يسراً وتيسيراً، لهذا أخرج دوماً في حالة رضا وسعادة. المسؤول الذي يجلس على كرسيه لو كان منتخباً لقام بنفسه بالمرور على كل الخدمات التي تقع في نطاق عمله خشية وقوع كارثة، أو لمزيد من التطوير، في الأولى لن يُعاد انتخابه من المواطنين لتقصيره في حقهم، وفي الثانية سيضيف مزيداً من الأصوات لرصيده لأنه يُسّهل على المواطنين حياتهم، لكن لأنهم جميعاً معينون فإن ولائهم ليس لمواطنيهم، إنما لمن أجلسهم على كراسيهم، لهذا تجد النفاق مزدهراً جداً، وتجد العمل قليل جداً. رئيس جامعة بنها عندما تمطع وتحدث فإنه ألقى بالمسؤولية على القدر، "قدر الله ونفذ"، ما علاقة القدر بمصاعد بلا صيانة، ولا عامل ينظم من يدخل، ومن يبقى حتى لاتزداد الحمولة؟، ولماذا بدأت النيابة تحقيقاتها بالتحفظ على دفاتر الصيانة، ومراجعة الجوانب الهندسية في المصعد إذا كانت المسألة قدرية؟، هل القدر أن تقود سيارة بلا مكابح؟، أو تقف أمام قطار؟، أو تلقي بنفسك في الماء وأنت لا تجيد السباحة؟، لا تحمل القدر إخفاقاتك، وإخفاقات غيرك من المسؤولين معك عما حدث، هل مثل هذه العقلية جديرة بقيادة جامعة يُفترض أنها معمل العلم والفكر والبحث والابتكار والنهوض؟، وهل هذا مستوى أستاذ ورئيس جامعة في القرن الحادي والعشرين؟، ماذا لو تواجد هذا الرجل في مؤتمر علمي في أوروبا أو أمريكا أو في كوريا الجنوبية،أو الهند، وتحدث بهذه اللغة القدرية الاستسلامية التواكلية؟!. كارثة المصعد إشارة أخرى لقصة الأمس واليوم والغد حيث تغيب الجدية، والمسؤولية، وثقافة المحاسبة، مقابل شيوع ثقافة النفاق حتى صارت منظومة حياة، مصر بحاجة للإنقاذ العاجل والشامل قبل أن يصير المريض ميئوساً منه، وهنا لن يجدي معه أي علاج. [email protected]