لا شك أننا نستطيع القول بأن أبرز نتائج الربيع العربى وصول الإسلاميين إلى سدّة الحكم، ونجاحهم فى نيل ثقة الجماهير من خلال عمليات الانتخاب، وهنا تتوجه الأنظار إليهم، ويتساءل المتسائلون عن مدى وفاء الإسلاميين بشعاراتهم: (الحل الإسلامى وتطبيق الشريعة)؟؟؟؟ فهل سيتمكنون من تطبيق الشريعة؟؟ وما هى إستراتيجيتهم فى ذلك؟؟ لقد غابت الشريعة عن حياة المسلمين قروناً عديدة، ولم يحضر منها إلا ما يتعلق بأحكام الأحوال الشخصية، وحُكمت الشعوب العربية فى معظم شئونها بدساتير وضعية سنين طويلة، حتى تغلغلت فى حياتهم، وتعودوا العمل بها، ورضى قسم كبير منهم بتلك الأحكام وتلك الدساتير العلمانية!! بل أصبح بعض المسلمين يستنكرون وينفرون من الدعوة إلى تطبيق الشريعة، ويسجلون اعتراضهم عليها!! ومن المسائل المرتبطة بالموضوع مسألة التدرج فى تطبيق الشريعة، وهل يجوز أن نرجئ تطبيق بعض الأحكام؟ أم أن الواجب تطبيق جميع أحكام الشريعة من غير تأخير ولا إرجاء؟؟ هناك من يذهب إلى هذا الرأى ويطالب الإسلاميين بالتطبيق الكامل، وهنا يتجسد إشكال كبير، وهل التطبيق ممكن أم غير ممكن فى ظل الظروف والأوضاع الراهنة؟؟ وهناك فريقٌ من العلماء مثل البروفيسور محمد كمال الدين إمام والدكتور أحمد الريسونى وغيرهم يرون أن تطبيق الشريعة فى عصرنا يكون بالتدرج؛ بل يذهب الريسونى إلى أن التدرج فى التطبيق حتمى لا مناص منه، وهذا الرأى هو ما ترتاح له النفس ويطمئن له القلب، وهو الذى يتفق ويتماهى مع قواعد الشريعة وروح الإسلام، وبيان ذلك بما يلى: • إن التدرج يعنى ارتقاء السلّم درجة.. درجة، وإعطاء الدواء جرعة.. جرعة، وتسويق الفكر مرحلة.. مرحلة، والتدرج سنّة كونية لا يمكن إغفالها أو مصادمتها، ومن يصادمها يلقى الفشل والخسران، ولهذا سار التشريع فى البداية على مقتضى هذه السنّة ولم يصادمها قال تعالى: ((وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً)). • سنّة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فقد نقل أن ابنه عبد الملك دخل عليه بعد أن ولى الخلافة فقال له: يا أبى.. ماذا أنت قائل لربك يوم القيامة إذا سألك بين يديه، وقال لك يا عبدى رأيت منكراً فلم تغيّره ورأيت معروفاً فلم تأمر به، فماذا أنت قائل لربك؟ قال له عمر بن عبد العزيز: هذا أمر من عندك أم أن الناس أوصوك وأرسلوك لى بهذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما حملنى على ذلك إلا حب الخير لك وللمسلمين وخوفى عليك ومعرفتى أن الله تعالى سائلك، ويا أبى والله لا أبالى لو غلت بى وبك القدور فى ذات الله – عز وجل- مهما أصابنا من المصيبة لا أبالى فى ذلك، فقال له والده عمر: بعد أن شكره وأثنى عليه: ألا يكفيك أننى كل يوم أنشر معروفاً ولو واحداً، وفى كل يوم أزيل منكراً ولو واحداً، وإننى أرى أن ذلك أفضل من أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه كله جملة، وأشار إلى أن القوم ويقصد عمر بن عبد العزيز بنى أمية قد عقدوا عقداً وربطوا أموراً، فلو أننى حاولت لكانوا هم من يقومون ضدى وربما ثارت الحرب ولا أحب أن يراق محجمة دم بسببى. • ونحن نتأمل هذه الرواية، نجد أن الظروف التى جاءت فى سياقها مشابهة لما نحن فيه؛ بل ظروفنا أشدّ، فقد كان زمن عمر أقرب إلى عهد الخلفاء الراشدين، ومع ذلك حصل انحراف عن الشريعة، وولده يطالبه بالتطبيق الكامل وعدم التأخر، ولكن عمر يجيبه بأن الأصلح هو التدرج فى العودة إلى الشريعة، وها هنا نسأل: هل زماننا أحوج إلى التدرج أم زمن عمر بن عبد العزيز؟؟؟ ثم انظر فى قوله: (وأشار إلى القوم ..) ويقصد بنى أمية وكيف يتربصون بعمر وبسياسته، ولو أنه لم يراع التدرج لقاموا ضده، ونحن نقول للمتعجلين: ألا ترون تربص الدول الكبرى والقوى العالمية بالإسلاميين؟؟، وكذلك تربص العلمانيين وقوى اليسار بالإسلاميين؟؟ • لا نقاش حول نصوص الشريعة والإقرار بها، والإيمان بوجوب تطبيقها فهذه مسألة، وأما عملية التطبيق فمسألة أخرى، ترتبط بالقدرة على ذلك، وترتبط بفقه واقع المجتمعات العربية، وترتبط بتقدير المصلحة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ارتباط النصوص بالواقع، وأن من يفقه النصوص فقط ولا يفقه الواقع فهو ليس بفقيه. • بمراجعة القوانين الوضعية نجد أن هناك فى بعضها تشابها مع أحكام الشريعة، وذلك راجع إلى أن المشرّعين ومدونى القانون بنوا كثيراً من أحكامهم على الشريعة، كما قرّر ذلك الأستاذ الكبير (عبد الرزاق السنهورى)، وإذا ثبت ذلك فهذا يسهل عملية تكييف تلك القوانين وربطها بالشريعة. وأخيرا، نقول كما قال الفقيه (الريسونى): لابد من أن ندفع شيئاً فشيئاً نحو تصحيح التشريعات والسياسات حتى لا يبقى فيها تعارض ولا تصادم مع شرع الله، وهذا يحتاج إلى تدافع حكيم وتدرج موزون.. أسأل الله أن يوفق الإسلاميين للمنهج الصحيح وأن يكفيهم شر المتربصين.