نيكي هيلي مندوبة أمريكا في الأممالمتحدة أخذت تهدّد الدول ال 193 الأعضاء بالمنظمة الدولية حتى لا يصوّتوا لصالح قرار القدس في الجمعية العامة الخميس الماضي. قالت بكلّ وقاحة إنها ستراقب التصويت، وستحصي عدد وأسماء المصوّتين مع القرار، وسترفع أسماءهم إلى ترامب رئيس الإدارة الأمريكيّة المُتصهينة. تتوّعد كما لو كانت مديرة مدرسة، ودول العالم تلاميذ صغاراً في السنّ أمامها لا يُدركون مصلحتهم، وينبغي تحذيرهم وترهيبهم حتى لا يقعوا في الخطأ، أو كأنها جلّاد يمسك سوطاً يلهب به ظهور من لا يخضع لأوامر العمّ سام، وقد انضم ترامب إليها ليعلن بصفاقة أنه سيقطع الأموال التي تقدّمها بلاده مساعدات لمن يعارضه، ويصوّت إلى جانب الحقّ الفلسطيني في القدسالمحتلة. ما كل هذا الغرور والغطرسة؟. تلك مؤشرات على الضعف، وليس القوّة، فالقوي الواثق من نفسه لا يلجأ لهذه الأساليب التي تليق بالبلطجية والعصابات والمافيات وليس الدول المحترمة، فما بالنا إذا كانت التي تفعل ذلك هي القوة العظمى المفترض أن تكون في مقعد قيادة العالم، هذا السلوك يتناقض مع قيم الديمقراطية التي تفتخر بها أمريكا، ويصطدم بمبادئ حرية الدول في اتخاذ قرارها الوطني المستقل، وقد جلب ذلك استهجاناً لها، وكان سبباً إضافياً لتحديها والتصويت للقرار بأغلبية كبيرة فاقت الثلثين. التهديدات غير المسبوقة تكشف جوانب أخرى من سوءات الوجه الرسمي الأمريكي، وجه لا يريد أن يصلح ما تشوه فيه ليكون مقبولاً، الإدارة الحالية تعلن حرباً صريحة على فلسطين والعرب والمسلمين نيابة عن نتنياهو وحكومته المتطرفة، والقدس في القلب من هذه الحرب، وتحذير قائد حماس إسماعيل هنية من أن واشنطن تتجه لاتخاذ إجراءات أخرى لصالح إسرائيل مثل الاعتراف بيهوديتها، وشطب حق العودة، يؤكد أنها حرب عدوانية مفتوحة، وإذا لم تكن في شكل اجتياح عسكري، أو قصف بالقنابل والصواريخ، فإن خطورتها في كونها تنتهك كل القرارات الأممية، وتطيح بالقانون والشرعية الدولية تماماً من جانب الدولة الكبرى، وهذا يفقدها دورها كوسيط سلام، ولهذا وجب بناء تحالف جديد لرعاية عملية السلام من دول ذات مصداقية تتسم مواقفها بالنزاهة والحياد. هيلي أخفقت في الأممالمتحدة، تحذيراتها ذهبت هباءً، ابتزازها فشل، من هددتهم دول ذات سيادة، حتى الصغيرة والفقيرة منها لم تعبأ بقطع بعض الدولارات، قالت، لا لأموال أمريكا المخلوطة بالإهانة، فلتذهب إلى الجحيم. 128 دولة أدارت ظهرها ل ترامب، ولقّنت هيلي ورئيسها درساً الخميس الماضي، سيادة الدول واستقلالية قرارها وسياستها الخارجية ليست مجالاً للمساومة، أو الخضوع للابتزاز حتى لو كان من أكبر دولة في العالم. الدول الممانعة من بينها الأربعة الكبار في مجلس الأمن، روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، والأخيرتان حليفتان غربيتان لأمريكا، لكنهما مع البلدين الآخرين تتمسك بالشرعية، وتعلي من قدر المسؤولية في التعامل مع قضية القدسالمحتلة. الأربعة الكبار وقفت ضد أمريكا أيضاً في مجلس الأمن قبل جلسة الجمعية العامة بأيام، وصوّتت لصالح مشروع قرار يعتبر أي تغيير على وضع القدس غير قانوني ولا أثر له، المشروع أيدته 14 دولة، وأسقطته أمريكا بالفيتو، لتصبح معزولة في المجلس، وتتأكد عزلتها مع إسرائيل في تصويت الجمعية العامة، فلم يقف بجانبها في رفض القرار إلا إسرائيل كالعادة، وسبع دول أخرى هامشية. تفتق ذهن هيلي عن حسبة عجيبة بائسة تحاول بها التقليل من أثر الهزيمة، فقالت إن 64 دولة وقفت إلى جانب أمريكا في نقل سفارتها للقدس، وبالتالي تكون عملياً رفضت القرار المعروض على الجمعية العامة، فقد أضافت إلى الرافضين الصرحاء للقرار العربي الإسلامي، وهي تسع دول بما فيها بلادها، أصوات ال 35 دولة الممتنعة عن التصويت، وال 21 دولة المتغيبة عن الجلسة، وهذا تدليس، وسطو علني على مواقف الدول مثلما تسطو إسرائيل على القدسالشرقية، وعلى فلسطين التاريخية. الممتنع له أسبابه، لو أراد أن يدعم أمريكا لصوت ضد القرار، والمتغيب له أسبابه أيضاً، لو أراد تأييد ترامب لحضر، وضغط على الزر ليقف إلى جانبه. ومقابل هذا الالتفاف الأمريكي على الواقع الصادم لهم، هناك ثقة فلسطينية عربية بالنفس؛ لأن شواهد الحق تتحدث عن نفسها، فلم يقل أحد إن الأصوات ال 35 الممتنعة خشيت أمريكا، وأنّها تؤيد حق الفلسطينيين في قدسهم دون إعلان، ولم يقل إن المتغيبين يتعاطفون مع القدس أيضاً لرفع عدد الأصوات، الأمور واضحة، هناك 128 صوتاً صريحاً مؤيداً لعدم المساس بوضعية القدس، أو إجراء أي تغيير قسري عليها لصالح إسرائيل، و8 أصوات فقط تدعم اعتراف ترامب بها عاصمة لإسرائيل، وهي دول هامشية جداً، والمعروفة منها وهي توجو، وهندوراس، وجواتيمالا لا أثر لها على الساحة الدولية، والأخرى وهي جزر المارشال، وميكرونيزيا، وناورو، وبالاو مجرد جزر متناثرة في المحيط، وعدد سكان كل واحدة فيها يماثل عدد سكان مدينة أو قرية فلسطينية. ومع ذلك نشدّد على ضرورة أن تتواصل الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي مع حكومات هذه الدول، المؤيدة لأمريكا، والممتنعة، والمتغيبة، لمعرفة دوافع قراراتها، ومناقشتها فيها، وتوضيح الحقائق إذا كانت غائبة عنها لتعديل مواقفها ما أمكن ذلك، حتى لا نترك أي ساحة في العالم تمرح فيها إسرائيل بمفردها لتروج لأساطيرها وتزييفها للتاريخ وحقائق الواقع. [email protected]