فى هذا المقال نستعرض كيف تطورت رحلة الديون الاجنبية الخارجيه لمصر على مدار ما يزيد عن قرنين من الزمان تبدلت وتحولت احوال مصر فيها من دولة دائنة الى دولة مدينة ثم الى دولة تعيش على المنح والقروض والمعونات الاجنبية فى البداية نلاحظ انه فى فترة حكم محمد على باشا (1805 - 1848 ) انه كان حريصا على عدم اللجوء إلى الأقتراض من الخارج رغم حاجته الماسة الى الاموال وقد رفض بعض القروض التى عرضت عليه من الممولين الأجانب لخوفه من أن يؤدى الدين إلى تورط مصر وأعطاء ذريعة للتدخل الأجنبى وقد كان محمد على باشا على صواب فى توقعاته بعكس خلفائه سعيد و أسماعيل اللذين وضعا فى الدائنين الأجانب ثقتهم .واستطاع محمد على باشا ان يعوض حاجته للاموال عن طريق تطوير موارد الدولة وافتتاح المشروعات الضخمه وضم الاراضى خارج الاقليم المصرى وبذلك استطاع ان يرتفع بايرادات االخزانة المصرية من من 4 مليون فرانك فى بداية توليه الحكم عام 1805 الى 90 مليون فرانك عام 1838م اى انه ارتفع بحجم الايرادات قرابة 25 ضعفا ما كانت عليه ، ولم يشجع محمد على ايضا دخول البنوك الاجنبيه الى مصر خوفا من سيطرة الاجانب على النواحى الماليه وهو ما حدث فى عهد خلفاءه ، وبذلك خرجت مصر من فترة محمد على ليس عليها ديون خارجيه للدول الاجنبيه .وفى عهد الوالى عباس حلمى الأول الذى اعقب محمد على لم يشجع هو الاخر التواجد الأجنبى فى مصر ولا الأقتراض من الدول الأجنبية وبنهاية عهد عباس حلمى الأول ومجيئ الوالى محمد سعيد باشا جاء الأجانب إلى مصر من كل الدول الاوربية وبدأو فى أنشاء البنوك الأجنبية وبيوت المال والرهن العقارى وبدأ التوسع فى الاقتراض من هذه البنوك وبيوت الرهن من قبل الوالى محمد سعيد باشا ومن قبل الفلاحين المصريين حتى وصلت ديون مصر فى نهاية عصر سعيد باشا الى 11 مليون جنيه استرلينى ( 11.160.000 جنيه ) .وجاء خلفه الخديوى أسماعيل ليتوسع أكثر فى الأقتراض والأنفاق ببذخ شديد حتى أنتهى عصر الخديوى أسماعيل وديون مصر وصلت الى 126 مليون جنيه أسترلينى وهو رقم ضخم جدا بحسابات تلك الفترة وفى عام 1876م أفلست مصر وأصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزماتها وتم تعيين مراقبين أجانب فى الحكومة المصرية لمراقبة الايرادات و المصروفات للحكومة المصرية لضمان سداد الديون التى اقترضتها الحكومة المصرية الامر الذى أدى فى النهاية الى الاحتلال الانجليزى لمصر عام 1882 .وقبيل بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914م كانت الديون الأجنبية على الحكومة المصرية قد تراجعت قليلاً حتى وصلت الى 100 مليون جنيه بخلاف الديون التى كانت على الأهلى والفلاحين وتقدر 43 مليون جنيه أقترضها الفلاحين من بيوت المال والرهن العقارى والبنوك الأجنبية التى فتحت فى مصر أواخر القرن التاسع عشر وكانت سبباً فى خراب وأحتلال البلاد والسيطرة على ماليتها واستحواذ الأجانب على ربع الاراضى الزراعية فى مصر وقتها عن طريق أحكام المحاكم المختلطة .وبدأت هذه الديون فى التراجع منذ أندلاع الحرب العالمية الاولى والتى أستفادت مصر من ظروفها وتراكمت الثروات لدى المصريين فى هذه الفترة . و نتيجة ذلك أنه فى السنوات الاولى التى تلت الحرب تمكن الفلاحين المصريين من سداد ديون الرهن العقارى وأنخفضت الديون التى كانت لبنوك الرهن على الأهالى ونقصت من 43 مليون عام 1914 الى 29 مليون عام 1920 والى 26 مليون عام 1930 . وتقدر الاموال التى دخلت الى مصر فترة الحرب العالمية الأولى ب 83 مليون بخلاف الديون التى تراكمت لصالح مصر على بريطانيا ووصلت الى 150 مليون جنيه . مشكلة الارصدة الاسترلينيةكان نتيجة أستيلاء أنجلترا على نصف رصيد مصر من الذهب عن طريق السير روفائيل سوراس عندما تم تأسيس البنك الاهلى المصرى ان نتج عن ذلك مشكلة الارصدة الاسترلينية .و الارصده الاسترلينية بدأت فى عام 1916 اثناء الحرب العالمية الاولى حينما أعلنت انجلترا انها لن تستطيع الوفاء برصيد الذهب المصرى الذى لديها وعليه فاذا أرادت الحكومة المصرية أصدار المزيد من الجنيهات الورقيه فمن الممكن ان تستعيض عن الارصده الذهبيه ( الغطاء الذهبى ) بما يقابله بقيمة سندات تصدرها الحكومه البريطانيه وتتعهد الحكومة البريطانية بسدادها .وباتالى فكانت الحكومة المصرية كلما ارادت ان تصدر المزيد من الجنيهات الورقية طيلة مدة الحرب العالمية الأولى كانت تستبدل الغطاء الذهبى بسندات على الحكومة البريطانية حتى تراكمت هذه الارصدة الاسترلينية ( اى السندات ) على الحكومة البريطانية طيلة مدة الحرب العالمية الأولى .ولذلك فقد خرجت مصر من الحرب العالمية الاولى وهى دائنة لانجلترا بما يقدر ب 150 مليون جنيه نتيجة عمليات اصدار البنكنوت مقابل السندات التى تتحملها الحكومة البريطانية بالاضافة الى تكلفة العمليات العسكرية وتمويل مصر لحاجة الجيش الانجليزى والموارد التى كان يحتاجها جيوش الحلفاء أثناء الحرب . اختفاء ديون مصر الخارجية وفيما يخص بتتبع الدين الخارجى على مصر ففى عام 1940 قامت الحكومة المصرية بإالغاء صندوق الدين وتحويل المتبقى من الدين الخارجى إلى دين داخلى باصدار سندات يشتريها المصريين وسددت بها ما تبقى من الدين الاجنبى بسندات بأجال ينتهى أقصى أجل لها فى عام 1973 وبذلك لم تختفى اقساط الديون والفوائد من الميزانيه المصرية اذ استبدلت بفوائد واقساط لسندات وديون داخلية . مصر دولة دائنة بدلاً من مدينة فترة الحرب العالمية الثانية وفى فترة الحرب العالمية الثانيه ( 1939 - 1945 ) أستفادت مصر من ظروف هذه الحرب كثيرا ودخلت أموال كثيره الى البلاد لامثيل لها من قبل وفاقت ماحصلت عليه مصر أثناء الحرب العالمية الاولى حيث قدر ما دخل الى مصر من أموال خلال الحرب العالمية الثانيه بما يقدر ب 500 مليون جنيه ( الجنيه الذهب = 97.5 قرش ) بالاضافه الى ان مصر خرجت من هذه الحرب وهى دائنة لبريطانيا العظمى ب 430 مليون جنيه ديون تراكمت على الحكومة البريطانية لصالح مصر بسبب أستمرار مشكلة الأرصدة الأسترلينية بالاضافة الى تمويل أحتياجات جيوش الحلفاء فى المنطقة اثناء الحرب العالمية الثانية .ولم تستطيع بريطانيا سداد هذه الأموال وطلب سدادها على اقساط حتى عندما جاء عام 1956 كان ماتبقى من هذه الديون 300 مليون جنيه لم تسددها انجلترا واعلنت عدم الوفاء بها نظير قيام مصر بتاميم قناة السويس وممتلكات الاجانب فى مصر بعد ثورة 1952م .وعندما جاء عبد الناصر الى الحكم عام 1954 كانت مصر دائنة لانجلترا كما ذكرنا ولم تكن على مصر أية ديون اجنبية فى هذا الوقت ونظر لتوسع عبد الناصر فى الحروب الخارجية فى اليمن وهزيمته فى عام 1967 واحتياجه لتمويل النفقات الحربية بعدها اثناء حرب الاستنزاف ظهرت الديون الاجنبية مرة أخرى فى الحسابات القومية للاقتصاد المصرى حتى اذا جاء عام 1970 عندما انتهى حكم عبد الناصر كانت الديون الاجنبية على مصر وقتها وصلت الى 1.7 مليار دولار ( مليار وسبعمائة مليون دولار ) وهو رقم كبير بحسابات تلك الفترة .وعندما جاء السادات للحكم عام 1970 كان يحتاج للتمويل الخارجى قبل حرب عام 1973 لنفقات تسليح الجيش المصرى ثم بعد الحرب لتمويل الاقتصاد المصرى حيث ان الاقتصاد المصرى وقتها كان يحتضر اذ كانت الخزانة العامة تعانى بشدة وكذلك متطلبات عملية اعادة الاعمار بعد الحرب لمدن القناة والبدء فى بعض مشروعات التنمية ، فتم اللجوء للاقتراض من الخارج بالاضافة الى التوجه للانفتاح الاقتصادى وقتها و الذى كبد ميزان المدفوعات المصرى عجوزات متتالية لم يكن بالامكان سدها الا باللجوء الى الاقتراض من الخارج حتى اذا اتينا عام 1981 وهو نهاية فترة حكم السادات كانت الديون الاجنبية قد وصلت الى 15 مليار دولار .تولى مبارك الحكم عام 1981 وبعد اقل من عشرة اعوام فقط نتيجة لسوء التخطيط وضعف الاقتصاد المصرى والذى اخذ النمط الاستهلاكى فى ظل ضعف قدرته على التصدير ارتفعت الديون الاجنبيه من 15 مليار دولار عام 1981 الى 52 مليار دولار عام 1990 ففى اقل من عشر سنوات زاد الدين الخارجى بمقدار 37 مليار دولار ولم تكن هناك حرب كالتى خاضها السادات .وفى عام 1990 اصبحت مصر عاجزه عن سداد الفوائد والاقساط وفى نفس الوقت نشبت حرب الخليج وكان فى ذلك مصلحة لمصر حيث تولت القوات البريه المصرية اخراج القوات العراقيه من الكويت وكان نظير ذلك ان قامت الولاياتالمتحده والدول الدائنة اعضاء نادى باريس ودول الخليج باسقاط نصف الديون الاجنبية التى على مصر وتراجع حجم الدين الخارجى الى 27 مليار دولار .بعد ذلك سارت حكومة رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى بخطة اقتصادية جيدة ونجحت فى تخفيض الديون الاجنبية و من بعدها اكملت حكومة الدكتور كمال الجنزورى نفس الطريق حتى اذا جاء عام 1999 بنهاية حكومة الجنزورى ومجيئ حكومة عاطف عبيد كانت الديون الاجنبية وقتها وصلت الى 11 مليار دولار فقط ثم بدأت فى التزايد من جديد مع حكومة عاطف عبيد على الرغم من حصوله على عائدات حصيلة الخصخصه ببيع الشركات والمصانع المصريه وابرام عقوم انتفاع الثروات المصريه كالبترول والغاز . و عاودت الديون الاجنبية الزيادة من جديد لتصل الى 18 مليار دولار عام 2004 عند رحيل حكومة عاطف عبيد و مجيئ حكومة الدكتور احمد نظيف .و اتجهت حكومة الدكتور احمد نظيف هى الاخرى الى التوسع فى الاقتراض الخارجى حتى وصل رصيد الدين الخارجى الى 34.8 مليار دولار عام 2011 عندما قامت ثورة يناير وتنحى مبارك عن الحكم .وخلال العام ونصف تقريبا التى قضاها المجلس العسكرى برئاسة المشير طنطاوى فى الحكم لم تشهد الديون الاجنبية تغير يذكر بل بالعكس انخفضت من 34.8 الى 34.4 مليار دولار اى بمقدار 200 مليون دولار .وفى خلال العام الذى حكم فيه الدكتور محمد مرسى ارتفعت الديون الاجنبية من جديد من 34.4 عند توليه الحكم الى 43.2 مليار دولار اى بزيادة بلغت 8.8 مليار دولار وهو معدل كبير فى عام واحد .وفى الفترة الانتقالية برئاسة رئيس المحكمة الدستورية المستشار عدلى منصور ارتفعت الديون الاجنبية خلال هذا العام من 43.2 الى 46.1 مليار دولار اى بزيادة قدرها 2.9 مليار دولار .وبمجيئ السيسى عام 2014 ورغم المنح التى تلقاها الاقتصاد المصرى من دول الخليج العربى والتى قدرت بحوالى 30 مليار دولار الا انه على الرغم من ذلك فقد ارتفعت الديون الاجنبية من 46.1 مليار دولار عام 2014 الى 74 مليار دولار عام 2017 اى بزيادة قدرها 27.9 مليار دولار فى ثلاث سنوات فقط . اى بمعدل اكبر مما اقترضه مبارك فى فترة حكمه كلها خلال ثلاثون عاما .واذا اضفنا الى رقم القروض الضخم هذا المقدر ب 27.9 مليار دولار اذا اضفنا اليه رقم المنح التى قدرت بحوالى 30 ملياردولار اى اننا امام رقم يقترب من الستين مليار دولار دخلت مصر فى الاعوام الاربع الماضية ومع ذلك لم يشعر المواطن بتحسن بل بالعكس تم رفع الرسوم والضرائب والاثمان العامه والخدمات اكثرمن مرة . والسبب فى ذلك كان سوء التخطيط وعدم تحديد الدولة اولوياتها الاقتصادية فكانت بعض المشاريع القومية مستنزفه لقدرات الاقتصاد المصرى اكثر من اضافتها قدرات انتاجية جديدة فضاعت القروض والمنح الدولية فى سداد فاتورة الاستهلاك المحلى تارة وفى الدفاع عن الجنية المصرى قبل تحريرة تارة اخرى . ولو انه تم انفاق هذه المبالغ الضخمه فى مشروعات تنموية وتهيئة البنية التحتية والخدمات العامه لكان قد تغير وجه مصر تماما ووضعت على بداية طريق التنمية الحقيقية ، لكن لم يستفاد من هذه الاموال فى التنمية وانفقت فى اغراض اغلبها استهلاكيه او غير ضرورية لا يتفق مع ثقافة الاولويات .واذا استمر الدين الخارجى بنفس متوسط معدل الزيادة السنوية الاخيرة فانه فى خلال ثلاث سنوات او اقل سيتجاوز الدين الخارجى 100 مليار دولار ولذلك يجب على واضعى السياسة الاقتصادية المصرية ان ينتبهوا الى خطورة المرحلة القادمة وهى ان تضطر الحكومة المصرية الى استدانة ديون جديدة من اجل سداد الديون القديمة بما يعنى اننا امام ثقب اسود سيبتلع كل مجهودات التنمية مما قد يضطر مصر مستقبلا اذا استمر هذا الوضع الى العجز عن الوفاء بالاقساط والفوائد فى مواعيدها وطلب جدولة الديون والتى يتطلب من الحكومات فيها خطط اقتصادية تقشفية صارمة او يخضع بعض اصولها للادارة الدولية لحين انتهاء سداد اقساط الديون . ** باحث اقتصادى