لا أفهم لماذا يتصور النظام السياسي الحالي أن أي ملاحظة على أدائه أو رؤيته للحل في مصر المأزومة حاليا هو إهانة له أو تشهير به أو تدخل في شئون سيادية ، على النحو الذي حدث في التعليقات الداخلية والدولية على تصريحات الرئيس السيسي بخصوص مجزرة مسجد الروضة ببئر العبد والتي هزت ضمير العالم كله من وحشيتها ، فقد قال الرئيس أنه سيرد "بالقوة الغاشمة" على تلك الجريمة ، وهو تعبير لم يكن موفقا ، واضطرت رئاسة الجمهورية نفسها لإصدار بيان توضح فيه المقصود وتخفف من وقع العبارة ، بما يعني استشعارها الحرج منها ، وإدراك الرئيس أن صدى الكلمة كان سلبيا . الخارجية المصرية دخلت في سوق المزايدات فأصدرت بيانا للرد على صحيفة بريطانية نشرت مقالا يقول أن استخدام القوة المفرطة أو الغاشمة في مصر لم ينجح في دحر الإرهاب وإنما عقد الأمور أكثر ، ولم يجف مداد بيان الخارجية المصرية حتى ظهرت تقارير أخرى في صحف وقنوات ألمانية وأمريكية وغيرها تؤكد نفس المعنى وبنفس العبارات تقريبا ، فهل ستضطر الخارجية لإصدار بيانات متلاحقة تندد بهذه التقارير أم أن الحكمة تقتضي دراسة هذا الكلام ومراجعة الموقف برمته ، فلعل المسار الحالي خاطئ بالفعل ويحتاج إلى تصويب وتعديل . العالم كله متضامن مع مصر ضد الإرهاب ، ولكن المعركة مع الإرهاب أصبحت عالمية ، وليست محلية أو حتى إقليمية ، فما يحدث في القاهرة أو بغداد أو طرابلس يؤثر في عواصم أوربية وأمريكية وحتى في استراليا البعيدة ، والسيسي نفسه يعيد التأكيد في خطاباته أنه يخوض معركة الإرهاب نيابة عن العالم ، وأن المواجهة شراكة ، كما أن السلاح والدعم التقني والمعلوماتي والأمني وغيره لمواجهة الإرهاب يأتي لمصر من عواصم العالم المختلفة لهذه الغاية ، ووزير الخارجية سامح شكري في حواره مع شبكة سي إن إن الأمريكية أمس الاثنين قال أن مصر لا يمكنها خوض المعركة ضد الإرهاب بمفردها وأنها بحاجة إلى عون الشركاء الدوليين حسب تعبيره ، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون لهؤلاء "الشركاء" رأي وتقدير وحتى حق الاختلاف مع السياسات التي تحدث هنا ويرون أنها تأتي بنتائج عكسية في الحرب على الإرهاب . استخدام الرئيس لتعبير "القوة الغاشمة" لم يكن يستحضر القاموس اللغوي ، وإنما كان تعبيرا عفويا عن القوة المفرطة والعنيفة والتي تتخفف من حسابات كثيرة في طريقها ، والقوة الغاشمة تستخدم بالفعل في مصر منذ أربع سنوات أو أكثر قليلا ، سواء في استخدام العنف المباشر ، السلاح ، أو في إصدار حزمة من القوانين "الغاشمة" التي تحاصر الوطن كله وتمنع عمليا أي نشاط سياسي معارض أو مخالف لما تراه الدولة ، أو من خلال سلسلة من الإجراءات الأمنية وغيرها جعلت من العدالة طيفا بعيد المنال عن مصر والخوف يلاحق الجميع ، أو من خلال فرض حالة الطوارئ على عموم البلاد رغم أن ما صدر من قوانين خنق النشاط السياسي بالفعل كما أطلق يد أجهزة الأمن وحتى القضاء في مواجهة قوى الإرهاب ، أو من خلال قرارات إدارية غامضة ومجهولة غالبا حاصرت الإعلام وأخضعت الصحف والقنوات الفضائية للتوجيه المركزي من خلال مؤسسات سيادية ، وأغلقت قنوات بشكل مباشر وأجبرت أخرى على البيع وأغلقت مئات المواقع الإخبارية بما فيها من يمثل صحفا رسمية مرخصة ، وهذا كله صنع مناخا كئيبا يظلل مصر ويشعر أي زائر فيها أن البلد في حال قلق وتوتر ووضع سياسي غير مستقر وغير طبيعي . القوة الغاشمة ظهرت منذ الأيام الأولى التي تلت بيان 3 يوليو 2013 الذي أطاح بالرئيس الأسبق محمد مرسي وحكم الإخوان ، وما تلاه من موجة احتجاجات شعبية من مؤيديه ، كانت متوقعة وعادية في ظل ظروف مصر السابقة منذ ثورة يناير ، لأن الشارع كان دائما ساحة الاحتجاج الأساسية لكل القوى وكل التيارات ، وكان يمكن بقدر قليل من الحكمة السياسية وطول البال "والقوة العاقلة" تفكيك هذه الاحتجاجات وتصريفها وإنهاؤها وتقليل تكاليف التحول السياسي الذي حدث ، بما يوفر على الوطن خمس سنوات تالية من الدم والكراهية والانقسام العنيف والنزيف الاقتصادي والاجتماعي والأمني الذي وضع الوطن على أبواب المجهول ، لكن استسهال اختيار "القوة الغاشمة" في فض اعتصامات رابعة والحرس الجمهوري والمنصة ومسجد الفتح وغيرها ، وراح ضحيتها المئات ، وخلفت مذابح دموية لم تعرفها مصر في تاريخها الحديث كله ، حتى أيام الاحتلال ، وموجة الاعتقالات والمطاردات وغلق الصحف والقنوات الفضائية ثم محاصرة كل شيء تقريبا في البلد بعد ذلك ولكل القوى المعارضة ، إسلامية ويسارية وليبيرالية حتى طال القتل في الشوارع مظاهرات نشطاء الأحزاب المعادية للإخوان ومرسي ودخل السجون عدد كبير من نشطاء ثورة يناير على خلفية احتجاجات سياسية ، هذه "القوة الغاشمة" هي التي فتحت أبواب الشر على البلد ، ونشرت الخوف ، خوف الجميع من الجميع ، كما أنها أسست للمناخ السوداوي الذي سهل على نزعات العنف أن تتبلور وتتكاثر ثم تتمدد وتجتذب كوادر جديدة بسهولة ثم تنشر إرهابها في ربوع الوطن مع تزايد وتيرة الوحشية والرغبة في الانتقام التي نعاني منها الآن . القوة الغاشمة مجسمة في شمال سيناء منذ أربع سنوات ، حالة الطوارئ معلنة هناك ، والسيطرة تامة لحركة الجيش والشرطة والإعلان عن قتلى من الإرهابيين شبه يومي واعتقال العشرات منهم بشكل يومي أيضا وتم تجريف أراضي وتهجير آلاف الأسر وهدم بيوت لتأمين مناطق بعينها ووسائل الإعلام كافة معزولة عما يجري وممنوعة من التغطية ، فهل تم حل المشكلة ، هل تم القضاء على الإرهاب طوال السنوات الأربع ؟ الإجابة ما نرى جميعا ، فلماذا يغضب صاحب القرار عندما يقول له العالم كله الحقيقة التي نراها رأي العين ، القوة الغاشمة لم تنجح ، القوة الغاشمة ليست هي الحل ، القوة الغاشمة هي أحد أسباب الأزمة أساسا . لماذا لا نجرب خيارا آخر لإنقاذ الوطن ، لماذا لا نجرب ما ينصحنا به العالم كله ، لماذا لا نوقف خيار "القوة الغاشمة" ، سياسيا وأمنيا وقانونيا وإداريا ، لماذا لا نؤسس لمناخ سياسي حر ، وعدالة حقيقية ، وسيادة للقانون حقيقية ، وديمقراطية حقيقية ، وتعددية سياسية حقيقية ، ونحمي الأحزاب من التدخل الأمني والحصار الأمني ونطلق نشاطها ، لماذا لا نحمي حرية الصحافة وحرية التعبير ، لماذا لا نوقف المحاكمات ذات الطابع السياسي ، لماذا لا نطلق منظمات المجتمع المدني بكل أطيافها لتضخ حياة جديدة في المجتمع وتحميه من التطرف والإرهاب ، لماذا لا يكون هناك عفو عام وشامل لمن لم يثبت بشكل قاطع تورطه في الدم وهم الغالبية العظمى ممن في السجون الآن ، لماذا لا نوقف ملاحقة النشطاء والمعارضين ، لماذا لا نخفف القيود على التظاهر السلمي لتخيف الاحتقان وتصريف الغضب في مسارات آمنة ، لماذا لا ندعو لمصالحة وطنية شاملة ونصفي ميراث الكراهية والمرارة الذي أنشأته القوة الغاشمة في المرحلة السابقة . لماذا لا نجرب مسارا جديدا ، بعد أن ثبت للكافة فشل المسار السابق ، لماذا لا نغلب روح التسامح والحكمة السياسية ومصلحة الوطن المجردة على روح القسوة والغضب والقلق على كرسي الحكم ، أسأل الله أن يبصر أصحاب القرار برؤية جديدة أكثر صلاحا وعدلا ورشادا ، وأسأله أن يهدينا جميعا سواء السبيل . [email protected] https://www.facebook.com/gamalsoultan1/ twitter: @GamalSultan1