كان خطاب الرئيس السوري بشار الأسد واضحاً لجهة اختيار المقاومة أو الممانعة حلاً لمعضلة الضغوط الأمريكيةالغربية على نظامه، وهو الخيار الأسلم بكل المقاييس الواقعية، حتى لو انطوى على قدر من المغامرة كما يعتقد الكثيرون. نقول ذلك لأن سوريا ليست برسم الغزو العسكري الشامل على الطريقة العراقية حتى لو أعلنت الرفض المطلق للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية بشأن اغتيال الحريري، فكيف إذا لم تفعل ذلك وأصرت على قدر من التعاون ضمن حدود السيادة السورية؟ ليس من الصعب القول إن الظروف الخاصة بالولايات المتحدة، وإلى جانبها الظرف الدولي والعربي والإقليمي لا يستوعب احتلالاً عسكرياً لسوريا؛ فمن جهة ليس بوسع واشنطن خوض حرب جديدة فيما جزء كبير من جيشها يتخبط في مستنقع دولة مجاورة وجزء آخر في أفغانستان وكل ذلك في ظل عزوف عام عن الالتحاق بالجيش رغم المغريات يضطر واشنطن إلى التعامل مع شركات للمرتزقة بلغ عددها في العراق إلى الآن حوالي خمسين شركة توظف ما يقرب من خمسة عشر ألفاً من العسكريين القدامى أو المدربين الجدد من مختلف أقطار العالم، وعلى رأسها جنوب إفريقيا، ومن جهة أخرى لا يبدو أن أحداً من القوى الدولية، وحتى الإقليمية والعربية يمكن أن يقف في صف حرب كهذه، كل لاعتباراته الخاصة بالطبع . يبقى الخيار الآخر المتمثل في إسقاط النظام من الداخل ، أو إخضاعه لكامل شروط إعادة التأهيل المطلوبة لتمرير مشروع الشرق الأوسط الكبير ، الذي تتسيد الدولة العبرية المنطقة من خلاله، وهذا الخيار لا يبدو سهلاً بحال من الأحوال، ليس فقط لأن النظام مضطر للتماسك على نفسه خشية السقوط، وهو في خاتمة المطاف نظام يعتمد المجموعة المتماسكة والأسرة المتضامنة والطائفة المتكاتفة، بل أيضاً لأن معظم قوى المعارضة ليست على استعداد للتعاون مع المخطط الأمريكي لترتيب شؤون المنطقة، أما الأهم من ذلك فهو الوضع العربي الخائف من تداعيات سقوط النظام في سوريا على نفسه، فيما يبدو الوضع الإقليمي معقولاً بتحالف إيران مع النظام وعزوف تركيا عن التعاون مع معركة كهذه. لذلك كله لن تكون مهمة الأمريكيين سهلة، لاسيما في ظل وجود قوى لبنانية معتبرة تقف إلى جانب سوريا، يقف حزب الله على رأسها، في حين لا يبدو أن آخرين في الساحة اللبنانية سيكونون على استعداد لعداء سوريا ، ووضع لبنان تحت الوصاية وفي مواجهة الرغبة العربية في عدم تسليم سوريا للأمريكان . ولا تسأل بعد ذلك عن الزلزال النفسي الذي يمكن أن يحدثه استهداف حاضرة ثانية من أهم حواضر الأمة العربية والإسلامية في غضون ثلاثة أعوام لا أكثر. في ضوء ذلك يمكن القول إننا سنكون إزاء معركة طويلة، وليس صحيحاً أن مقاومة سوريا ورفضها التعاون المطلق مع لجنة التحقيق سيضع سوريا تحت الوصاية في غضون أسابيع أو شهور. بشار الأسد في خطابه الأخير اختار المواجهة، لكنها مواجهة عاقلة إلى حد ما، فهو لم يقل إنه لن يتعاون مع لجنة التحقيق، بل شرع يوضح أن التعاون لن يوقف المؤامرة ، لأن القصد لم يكن قتلة الحريري ، بل سوريا ومن ورائها المنطقة برمتها. على أن ما يستوقف المراقب المحب لسوريا في خطاب الرئيس الأسد هو تجاهله للوضع الداخلي إلا من إشارة عابرة إلى ملف الأكراد وأحداث العام الماضي، ما يعني مضياً في ذات السياسة التي تتجاهل تمتين الجبهة الداخلية ، وفتح الآفاق أمام إصلاح داخلي يأخذ في الاعتبار ظروف المواجهة مع الهجمة الخارجية. لم يقدم الرئيس السوري إشارة مقنعة على هذا الصعيد ، وكان أولى به أن يفعل من دون أن يعني ذلك اختيار الفوضى ، أو تهديد الأسس التي قام عليها النظام، فنحن لا نتحدث عن ديمقراطية سويسرية، بل عن قدر من الانفتاح الذي يقوي الجبهة الداخلية في مواجهة الاستهداف الخارجي. من المؤكد أن الركون إلى بقاء قوى المعارضة السورية في الداخل والخارج في ذات المربع في حال تواصل إقصاؤها من قبل النظام لا يبدو صائباً بحال، ولا بد من خطوات يأخذها قادة البعث في اتجاه تلك القوى ، حتى لا يجري دفعها نحو الحضن الأمريكي. نعود إلى القول إن الأسد قد اختار الموقف الصحيح برفضه الخضوع للابتزاز، لكنه بتجاهله للملف الداخلي يكون قد أغفل عنصراً أساسياً من عناصر الصمود ، نتمنى أن يصار إلى تداركه سريعاً المصدر : الاسلام اليوم