يُحكى أن ملكًا في بلاد الهند, عاش قديمًا وسط رعِيته, وكان للملك فيل ضخم، يصول ويجول في شوارع المدينة، يَدهس الأطفال، ويَكسر الأشجار والنخيل, ويأكل الخِراف ويقتل الرجال والنساء، ويهدم البيوت، ويُخرِب الزروع، ويقضي على الغالي والنفيس...حتى ضجَ أهل المدينة غضبًا، من هول تلك الجرائم والكوارث التي ارتكبها الفيل، وترويعه للآمنين في بيوتهم وفي الطرقات والحواري، فتحوَلت حياتهم إلى جحيم، وكثُرت الجثث والأشلاء في أنحاء المدينة!. وكلما قرر أهل المدينة البُؤساء أن يذهبوا للملك، ليُعبِروا عن احتجاجهم من كوارث فِيله، ارتعدت قلوبهم، وتملك الخوف من أنفسهم، وتراجعوا عن قرارهم، خوفاً من انتقام الملك. وفي الوقت الذي لبس فيه سكان المدينة، ثيابَ الخوف والفزع، اتقاءً لجبروت الملك وفيله، كان هناك رجل جريء اسمه "زكريا"، قد أراد أن يتزعم الرعية، ويقودهم للذهاب للقصر الملكي، ليعرضوا شكواهم أمام الملك من جرائم فيله اللعين. وبالفعل قام زكريا بتدريب أهل مدينته، على كواليس لقاء الملك؛ حيث حفظ كل واحد منهم الكلام الذي سيسرده أمام الملك بشأن طامات الفيل وفواجعه، وأوصى زكريا مُرافقيه، بعدم الخوف أو التردد؛ لأنهم أصحاب حق، وإلا سيكون مصيرهم العذاب والهلاك. وبالفعل ذهب أهل المدينة، وفي مُقدمتهم زكريا، إلى الملك، وعندما دخلوا القصر، كادت قُلوبهم أن تنخلِع من صُدورهم، وأصابت الرعشة أيديهم, وبَدت أرجُلهم لا تقوى على حملِهم، من فخامة القصر، وبهاء حاشيته وحُرَاسِه، والزينة الرائعة التي ظهر عليها رجال الملك. أما هيبة الملك جالسًا على العرش، فقد عَقَدت ألسنة رُفقاء زكريا عن الكلام خوفًا ورعبًا، وأفقدتهم القدرة على التحدث فيما جاءوا لأجله. لاحظ زكريا ما أصاب أهل مدينته من ضعف وجُبن داخل القصر الملكي, وهو يهمس في آذانهم، مكررًا وصيته بعدم الخوف، وبينما هُم كذلك, إذا بالملك يسأل زكريا: ماذا تريد الرعية من مَلِكِها, يا زكريا؟, فخاطبه زكريا: "الفيل يا ملك الزمان..!"، ثم سكت زكريا، فتعجب الملك وسأله: وما أمر الفيل؟! التفت زكريا إلى الوفد الذي جاء شاكيًا ما ألمَ بهم من سوء، لكنه أبصرهم كالأصنام بلا حراك.. ثم رد زكريا مرة ثانية: "الفيل يا ملك الزمان.!" فغضب الملك وخاطب زكريا "لقد نفد صبري.. ماذا تريدون من الفيل.. أخبروني!"، فالتفت زكريا مرة أخرى لمن جاءوا معه ليتحدثوا عن جرائم فيل الملك، فوجدهم صُمًا بُكمًا، يكاد الخوف يتخطف أرواحهم، فخاطب زكريا الملك للمرة الثالثة: "الفيل يا ملك الزمان!!" فما كان من الملك إلا أن نَهَرَ زكريا، وهدده غاضبًا: "ويحك يا زكريا, لأجلدنَك أو لأُقطعنَ رقبتك، إذا لم تتحدث عن أمر الفيل، ما تريده منه أنت والرعية"، ومع حالة الهلع التي سيطرت على قلوب سكان المدينة، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، ولما أحس زكريا أن مصيره سيكون الموت الشنيع، إذا لم يَنْجُ بروحه من ذلك المأزق الجسيم، اضطر أن يُبدِل نِيَتَه، ويُغيِر مضمون المُهمة التي قاد الناس من أجلها، ونافق الملك مبتسمًا: "الفيل يا ملك الزمان، هو أجمل ما في المدينة، وأكثر الأشياء التي تدخل السرور على قلوبنا.. وإن رعيتك يرون أنه يعيش وحيدًا ويتجول في المدينة بلا أنيس له، وأنت تعلم أن الوحدة مُوحشة، ولذا فإنهم أتوا كي يقترحوا عليك، تزويج الفيل بفِيله، تملأ عليه فراغه ووحشته، وتنجب عشرات الأفيال بل مئات الأفيال، الذين سينعمون على الرعية بالأمن والعَمار والخيرات، بل سيكون خبر مَوْلِدْ الأفيال، بُشرى سارة وفرحة عظيمة عند الكبير والصغير!! وما أن انتهى زكريا من كلامه، حتى تمتمت الرعية بكلمات غير مفهومة، وهم في حالة احتجاج وسخط لا تسمع منه إلا همسًا؛ بسبب اقتراح زكريا، الذي سيزيد من هلاك الرعية والفتك بسكان المدينة جميعهم، ولكن رفقاء زكريا عجزوا أن يُفصحوا عن رفضهم، ولم يتفوهوا بحرف واحد. أما ملك الزمان فقد أعجبته فكرة زكريا, بل وأَشهَدَ حاشيته، على مدى حب رعيته له وتقديسهم لفيلِه، ثم أمر بتزويج الفيل، وتعيين زكريا، مُرافقًا خاصًا له!. وتلك هي قصة مُلخصة لأحداث مسرحية ألَفها الكاتب السوري سعد الله ونوس، حيث أظهر فيها الفيل، رمزًا للقوة والطغيان، من خلال تبْعِيته للحاكم، فلا أحد من الرعية تَجَرَأ على أن يشكو الفيل للملك؛ لأنهم يعرفون مدى بطش الملك وانتقامه، ممن تُسَوِل له نفسه، بمصارحة الملك بأنه ظالم أو مخطئ أو فاسد، حتى لو كان الخطأ أو الجُرم، نابعَين عن زبانية الملك أو أتباعه. وكذلك الأنظمة الجائرة عبر العصور والأزمان، فإنها تستمد دوامها واستمراريتها في الحُكم أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، من خلال توحُد النفاق والخوف معًا.. ليقيما دولة منزوعة العدل، مسلوبة الحريات، من شأنها مُساندة كل ذي سلطان جائر متكبر في الأرض.. باغٍ للفساد. فأهل النفاق، يسحرون أعين حُكامهم، فيرون الباطل حقًا، بل ويُزيِنون جرائم سلاطينهم، فتظهر للرعية وكأنها كرامات ومعجزات وفتوحات، أما أهل الخوف والسلبية، فهُم معزولون عن النضال لأجل مصلحة الوطن، تجدهم دائمًا في خوف على أرواحهم، وعلى لُقيمات يَلهثون وراءها لإطعام ذويهم، ولذا أسكتهم خوفهم على أنفسهم وعيالهم، وانشغلوا عن البحث عن حقوقهم. وطالما اجتمع الخوف مع الرياء في بلاط السلطان، فلا تسأل عن عدالة أو كرامة، ولا تعجب من دماء أُرهقت أو أخلاق أُهملت أو أمراض تفشَت أو فقر أعقبه جوع وتشرُد، أو غلاء يصرخ منه البسطاء، في أي أُمة، يصير سلطانها فرعون، فالخوف والنفاق يصنعان فرعون الزمان.