هل تصدقون أن هناك شركات عالمية متخصصة في مجال الهواتف والإتصالات، وأخرى تهتم بالمواد الغذائية ، تساهم بجدية في "تدمير الذوق العام" في مصر؟! أنا أصدق ذلك، لأنني رأيته عبر إعلانات متكررة ومتزامنة على فضائيات مختلفة، رأيت أن ثمة تعديل وتطوير في الصورة الذهنية لدى المشاهد، عبر عملية توكيد لهذا الهبوط والإنهزام الفني في الصوت والصورة والكلمات والمضمون ككل، هل هي خطة تساهم فيها هذه الشركات، أم أننا بالفعل لدينا القابلية الطبيعية للإنحدار الأوتوماتيكي، أم أنها مزيج ما بين (الإنحدار الطبيعي) يوازيه استغلال كيانات محلية ودولية من مؤسسات وشركات كبرى تهتم بالعقل الجمعي للشعوب. لا يمكن اعتبار هذا الكلام في إطار "نظرية المؤامرة" لأن الأمر ظاهر للجميع ولا يخفى على أحد.. والنتائج بارزة للعيان ولا تنكرها عين ولا تنفيها أجهزة الدولة الثقافية، فهناك ثمة عملية لنشر الأغاني الشعبوية والمصطلحات البذيئة عبر "أغاني المهرجانات" وبعض "المسلسلات" وتكرار مشاهد بعينها في لقطات متفاوتة تتخطى الثلاث دقائق متواصلة، يجمع فيها المخرج بين أغنية "المهرجان" و"تعاطي المواد المخدرة والخمور" مع بعض الإيحاءات الجنسية.. ثمة عملية ربط خفية وتلاعب خبيث في عقل الأسرة المصرية والعربية من خلال هذه المسلسلات. (خمسة أمووواه.. يالا بقى.. أيوا بقى)! هل يمكن في ظل الظروف الإجتماعية والاقتصادية في دولة مثل مصر، اعتبار ممثلة أو راقصة قدوة للفتيات، والتهافت على صناعة لقاءات صحفية وتلفزيونية لتردد "جملة سخيفة"، وتعبر عن جهل مطبق بالنطق الخاطىء للغة الإنجليزية، هذا المثال ليس للضحك، بل للتعبير عن مدى استغلال وسائل الإعلام المملوكة لرجال الأعمال المنتفعين لحالة الهزيمة النفسية لدى طبقة واسعة تعيش حالة تردي ثقافي بسبب أزمة الهوية التي اعترفت بها الدولة أخيراً. نظافة الفكرة خرجت أغاني المهرجانات وغيرها من الأزقة والحواري حتى أضحت فناً مصنفاً ضمن الفنون الشعبية، بل ويسافر رواده إلى دول العالم لإحياء بعض الحفلات والإفراح، وهم بذلك يحققون أرباح ودخل مادي، ويقومون بتصدير أساليبهم وطرقهم إلى دول أخرى ورسم صورة ذهنية لدى الشعوب عن "الفن المصري"، ولكنك إلى اقتربت قليلاً من هؤلاء الرواد وسألت اصدقائهم المقربين أو من تقرب منهم، ربما تسمع قصص وحكايات رهيبة، تدخل في دائرة الجريمة المنظمة والقتل والمخدرات والتهريب، فضلاً عن اخلاقيات التعامل وافتقاد النظافة الشخصية في التعامل مع الجيران، وحفلات صاخبة داخل منازلهم تزعج من حولهم، هنا أتحدث عن حالات من هؤلاء الفنانين أو المطربين، ولا أريد أن أعمم. القدوات المصطنعة في بلاد العرب فقط، هناك قدوات ورموز وأيقونات صنعتها الآلة الإعلامية بشقيها "العام والخاص"، لا يستحقون أن يكونوا في مثل هذه المكانة المصطنعة، ولأسباب عقلانية (فهؤلاء لا يملكون قيمة فنية يبهرون بها المجتمع المثقف، بل ضجيج يثير طبقة بعينها، ولم يضيفوا جديداً على الساحة الفنية، فضلاً عن افتقادهم للحس الجمالي، بالإضافة إلى استهتار يظهر عبر التصريحات الإعلامية واللقاءات الصحفية والمشادات والمنازعات القضائية والخناقات والشتم عبر الفضائيات وكثير منهم يعاني من عدم استقرار أسري واهتراء في حياته الإجتماعية) ورغم ذلك تجد من يفتح لهم أبواب التمكين والبروز والظهور الإعلامي (ليكونوا هم قدوة المجتمع). إذا قلنا أن ثمة شركات كبيرة تهتم بالإعلام، ومؤسسات علاقات عامة، وبعض المخرجين يتبنون هذا اللون من الفن، فإن هذا لا يمنع أبداً لتسليط الضوء على دور أجهزة الدولة وهدفها من وراء تشجيع مثل هؤلاء، حتى دون العمل على تهذيبهم ومراجعة ما يفعلونه، هل يمكن أن نقول أن ثمة ميول رسمية تساهم في هذا الوضع.. حتى الآن لست متأكداً، وأتمنى ألا أتأكد! هل يحدث ذلك في دول أخرى نعم يحدث أن تلحظ جمعيات ومؤسسات رقابية تهتم بأخلاقيات شعوبها عملية "هبوط أو انحدار في أذواق الناس" ولكنها لا تأخذ شكل "تيار ثقافي" كما الحال في مصر، وهذه الدول تتلافى تلك الحالة المؤقتة من خلال إعادة برمجة القوانين لتناسب مع تربية وتهذيب سلوكيات الناس حدث ذلك في (أمريكا وألمانيا وتركيا وبعض دول الخليج العربي)، تخيلوا الغرب الممتلىء بالإباحية لديه قوانين تهتم بالأخلاق والذوق العام وانسجام المجتمع والتعايش، بل تساعدهم على اختيار المناسب والمواتي لظروفهم وأحوالهم بشكل لا يجاوز التعدي على حق الإختيار أو حرية الشخص. نموذج لمن يستحق لقب فنان ثمة فنان في القديم ليس معروفاً، لكنه كان مميزاً، وقد سافر إلى بلاد الأندلس بسبب الغيرة والحقد والحسد الذي تعرض له في بلاد العرب، هو الموسيقار والمطرب "زرياب" ، الذي قام بنقل الكثير من الاشياء إلى الأندلس بعد الهجرة إليها غير الفن والموسيقى.. فهو الذي نقل أجمل ما في بغداد إلى قرطبة ومنها إلى الأندلس. وهو وحده الذي نقل أحسن الأقمشة وأزهى الألوان من بيوت الخلفاء إلى بيوت النبلاء. ولم يكن أثر زرياب مقصوراً على تطوير الموسيقى والغناء بالأندلس، وتجديده فيهما، وسحر أهلها بحسن صوته وجمال أدائه وإعجاز فنه، وتبحره فيه، حتى قيل أن ما حفظه منه تجاوز الألوف من الألحان والأغاني. بل لقد فتن الناس فوق هذا كله بآدابه وسعة ثقافته وتنوع معرفته. وكان عالماً بالنجوم، وتقويم البلدان وطبائعه ومناخها، وتشعب بحارها، وتصنيف شعوبها. وكتب تاريخ الأندلس تعطي من صفحاتها مساحات كبيرة للرجل الأسطورة زرياب وتنسب إليه أنه ارتقى بالذوق العام في الأندلس.. دون الرجال والنساء.. ووصفوه بأنه الرجل الأنيق في كلامه وطعامه. وكيف كان يلفت الأنظار إلى طريقته في الكلام والجلوس إلى المائدة أيضا. وكيف يأكل على مهل ويمضغ ويتحدث ويشرب بأناقة. وكان يكره مثل هذه الكلمات: يحب الشراب، ويلتهم الطعام، ويحشر اللحم والأرز في جانب من الفم، وكان يضع على مائدته الكثير من المناديل، هذه لليدين وهذا للشفتين وهذا للجبهة وهذا للعنق، وهو أول من لفت أنظار النساء إلى أن مناديل المرأة يجب أن تكون مختلفة اللون والحجم وأن تكون معطرة أيضا. أدخل زرياب إلى أوروبا وجبات الطعام الثلاثية الأطباق: تبدأ بالحساء (الشوربة)، ثم يتبعها الطبق الرئيسي، أما من اللحم، أو السمك، أو الطيور، ثم تختتم بالفواكه والمكسرات، وأسس أول معهد للموسيقى في العالم في مدينة قرطبة. وكان له ذوقه الخاص في تنسيق الموائد وتنظيمها واتخاذ الأكواب من الزجاج الرقيق بدلا من المعادن، واصطناع الأصص للأزهار من الذهب والفضة. وقد استحسن الناس ذوقه حتى في الأطعمة، فدلهم على صنوف محببة منها لم تكن الأندلس تدري شيئا عنها كالنوع المسمى على حد تعبيرهم (النقايا) وهو مصطنع بماء الكزبرى محلى بالسنبوسق (نوع من المعجنات المحشوة باللوز والفستق والسكر (يشبه القطائف). المصدر "ويكبييديا" زيادته للعود وترا زاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه،مع صديقه بن نعيمة حيث إذ لم يزل العودُ بأربعة أوتار على الصنعة القديمة، فزاد عليها وتراً آخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة. وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلاً من مرهف الخشب. وأبدع زرياب في تنسيق الألحان، حتى توهّم أن الجن هي التي تعلّمه. المصدر "ويكبييديا" تخريج المغنّين اختار تلاميذه الموهوبين ولقنهم الغناء بطرق فنية، تختلف كل فئة منهم عن غيرها تبعاً لاختلاف طبيعة أصوات أفرادها. فكان إذا بدأ الإلقاء على تلميذ لتعليم الغناء أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمِسْوره (متكأ كالمنبر) وأن يشد صوته جداً إذا كان قوي الصوت. فإن كان أقل قوة، أمره أن يشد على بطنه عمامة فإن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعاً في الجوف عند الخروج على الفم. فإن كان ألص الأضراس (المتقارب الأضراس) لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه. ومن هنا أخذ الغناء الأوبرالي يشق طريقه وفي هذا إشارة مباشرة لمساهمة زرياب في تأسيس فن الأوبرا المنتشر الآن في ايطاليا وأنحاء أوروبا.المصدر "ويكبييديا" إن ما فعله "زرياب" وأمثاله على مر التاريخ يجعل من البديهي أن يُطلق عليهم لقب "فنان"، بل أكثر من ذلك، يوازي "زرياب" في شهرته وتسليط الأضواء، "ولاد سليم اللبانين" في هذا الزمان، مع كامل الإحترام. الحاجة إلى حل حاسم وجرىء هناك عشرات الأفكار القائمة الآن "بصناعة مركز غير حكومي لرقابة الإعلام والفن"، وفكرة لإقامة مؤسسة "للرقابة على الذوق العام"، و هذا كلام جميل، ولكنه نظري وعند التنفيذ لن يكون له صدى كبير، والأفضل هو (عملية انقلاب فني) وشطب كل شىء والبداية من جديد، حتى يمكنكم أن تضعوه في (التراث الشعبي)، لكن الأفضل هو فتح صفحة جديدة وإعادة بناء عقلية وثقافة المشاهد، وتربية الناس عبر الإعلام، سواء بالمسلسل أو الفيلم أو الأغنية، ولا أتحدث عن كل شىء، فثمة أناس يهتمون بالعواطف والمشاعر وهم خارج إطار هذا الكلام، ما أتحدث عنهم 60 أو 70 مليون مصري، تحتاج إلى تأهيلهم (ذوقياً)، وتأخذ نقطة وتبدأ من أول السطر وتكتب بخط أجمل وأوضح. [email protected]