(قضية المرأة) على الرغم من التكلفة الباهظة التى دفعها شعبنا من أجل الثورة وعلى الرغم من كل الأحداث والصراعات و التناقضات التى أحاطت بالعملية السياسية خلال الفترة التى أعقبت الثورة، إلا أنه لا ينبغى أن ننكر أن هنالك مكاسب وتحولات جوهرية وأساسية قد حدثت بالفعل على أرض الواقع . فقد حصل الجميع على الفرصة الكاملة للتعبير عن أنفسهم وطرح مشروعاتهم السياسية على الشعب وعلى المجتمع وأخذت الأحداث والاختبارات العملية فرصتها هى أيضًا لبلورة أو غربلة أو امتحان المشروع السياسى لكل فصيل من الفصائل السياسية. وفى مجمل القول لقد انكشفت كل الأمور على حقيقتها واتضح للجميع حجمها الحقيقى ومدى قدرتها على إحداث التغيير من عدمه. وامتلك الناس قدرة على الاختيار أولاً، وعلى التدقيق والمحاسبة ثانياً، وهى تحولات مهمة فى النظام السياسى يجرى ترسيخها فى المجتمع يوماً بعد يوم من خلال الممارسة والقدرة على التصحيح، وهذا هو جوهر العملية الديمقراطية فى المجتمعات التى قطعت شوطاً فى أساليب الحكم الرشيد. ومن أكبر المكاسب التى نعيشها الآن أن الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية صار متاحاً للجميع وفقاً للمعايير المنظمة للعملية الانتخابية وإننا لأول مرة فى تاريخنا السياسى صرنا قادرين على أن نسأل المرشح للرئاسة عن مشروعه وأن نناقش أفكاره وأن يجلس إلى مائدة الحوار يجيب على الأسئلة ويطرح مشروعه ويدافع عن نفسه ويدافع عن أفكاره. ولأول مرة فى تاريخنا السياسى، صار عندنا شىء اسمه مناظرات بين المرشحين لرئاسة الجمهورية، يحكم من خلالها الناس على المرشحين ويقيمون أفكارهم وشخصيتهم. هذه نقلة هائلة يصير الرئيس بعدها واحدًا من الشعب أتى بناء على اختيار شعبى يعمل من أجل الشعب كموظف عام بدرجة رئيس جمهورية، ولم يعد الرئيس آخر الفراعين، ولا حتى سليل الفراعنة ولم يعد ذًات مصونة فوق الشعب أو فوق القانون . ولفت نظرى فى حوارات الفنان المبدع طارق حبيب مع مرشحى الرئاسة تركيزه على مواضيع أساسية وجوهرية فى بناء المجتمع وعلى رأسها فى نظرى موضوع المرأة. ولفت نظرى أيضًا القصائد التى أنشدها المرشحون فى قضية المرأة دون أن يسبروا غور مشكلة المرأة فى مجتمعنا. والقضية فى تقديرى، مثل القضايا الجوهرية الأخرى المطروحة على المجتمع فى هذه المرحلة الانتقالية تتجاوز آراء المرشحين للرئاسة، وتحتاج إلى نقاش أوسع على مستوى المجتمع ونخبته العريضة، وتحتاج أيضاً إلى تضافر جهود العديد من القوى والمؤسسات. ومشكلة المرأة فى مجتمعنا تبدأ من التعريفات. فالتعريف الذى يتناقله الجميع أن المرأة هى الزوجة والأخت والخالة والعمة، هو تعريف باهت بلا معنى ولا مدلول وهو من زاوية أخرى تعريف يجعل من المرأة شيئاً يُنسب إلى الرجل دون أن يعطيها قيمتها فى حد ذاتها. الأمر الثانى هو الحديث عن وظيفة المرأة ودورها فى المجتمع دون تعريف لمكانتها بالضبط. لا بد هنا من الإقرار بحقيقة أن مساحات عريضة من شعبنا لا تزال تحط من قيمة المرأة وقدرها، وتحاول أن تنسب هذا الموروث غير المتحضر إلى الدين وإلى الإيمان. ولا مجال هنا لمجاملة أو إنكار لهذه الحقيقة التى نعلمها علم اليقين، ولا إنكار موروثات لعل أسوأها هى نظرة الرجل والمجتمع إلى المرأة، وبطريقة محددة، إلى مكانتها فى العلاقة الزوجية والجنس، ومن هذه النقطة وبطريقة محددة يبدأ التشخيص والعلاج لمشكلة المرأة فى مجتمعنا. أن تكون غاية وجود المرأة فى عيون المجتمع والرجال هى إشباع حاجة الرجل والمتعة، فهذا معناه تحويل المرأة إلى شىء يتم التعامل معه بطريقة استهلاكية وعلى هذا تتأسس باقى تداعيات النظرة الدونية إلى المرأة. فالمدخل إذاً لعلاج مشكلة المرأة فى مجتمعنا إنما يكون من خلال التعامل مع قضية وضع الزوجة فى مجتمعنا وتصحيح العلاقة الزوجية. من المفترض أن علاقة الزواج والجنس تقوم بين الرجل والمرأة على أساس المحبة والمودة والألفة وقبول كل للآخر بملء حريته. ومن المفترض على الصعيد النفسى والإنسانى أن زواجًا يقوم على المحبة والقبول وإعطاء النفس للآخر، هو الذى يثمر علاقة البهجة والمسرة المتبادلة التى يترجمها الجسد إلى ما نطلق عليه المتعة. فالمتعة هنا حالة ابتهاج الأجساد بسبب المحبة، والمتعة هنا هى ثمرة زواج قائم على المحبة وليست هى الغاية فى حد ذاتها مجهلة أو متجاهلة مشاعر الآخر ومحبته وكينونته . والمحبة هنا هى صمام الأمان الذى يحفظ العلاقة الزوجية من الانهيار أو الخيانة. والحب من منظور الزواج لا يتحقق إلا بين طرفين عاقلين متساويين ومتكافئين وإلا ما ظل الحب حباً بل سيتحول إلى علاقة مختلفة تحمل اسم الحب ظلماً. ومن هنا ينبغى أن نبدأ تعريف المرأة بأنها الشريك المساوى للرجل فى صنع الحياة وبناء المجتمع، وأن علاقة المرأة بالرجل فى الزواج والجنس لابد أن تقوم على الحرية فى قبول الآخر والمحبة المتكافئة المتبادلة. المساواة التى ننشدها هنا ليست المساواة فى الأدوار والأداء. فثمة أدوار عنيفة تناسب الرجل وتذهب بأنوثة المرأة، تجعل المساواة هنا ظلماً لها، لكن المقصود من المساواة هو المساواة فى كينونة المرأة وإنسانيتها وحقوقها مع تكافؤ الفرص فى الحياة، وعليه فإن البداية فى إصلاح وضع المرأة فى المجتمع هى تجديد الفكر وثقافة المجتمع نحو كينونة المرأة أولاً ونحو مكانتها فى المجتمع وفى الأسرة كشريك مساوٍ ومكافئ للرجل، ثم يأتى بعد ذلك إعادة مناقشة القوانين أو التشريعات المجحفة بحقوقها . حسناً، فعل طارق حبيب عندما طرح هذه القضية على جدول أعمال المرشحين للرئاسة، فى وقت نسمع فيه آراء لا تبعث على الارتياح بشأن قضية المرأة وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية فى مجلس الشعب، إلى الحد الذى شجع البعض إلى أن يمضى بخياله إلى مدى لا يمكن تصديقه، فيما يمكن أن يصل إليه التفكير الرجعى فى قضية المرأة، لكن لم نلمس فى ردود المرشحين ما يعكس هذا الإحساس بالخطر على وضع المرأة ومكانتها فى المجتمع، رغم التقارير التى تنشرها وسائل الإعلام عن العودة إلى عادات وممارسات خاطئة قطع المجتمع شوطاً فى تغييرها بما يعبر عن تغير نظرته للمرأة وحقوقها. إن النظر إلى المكتسبات التى حققها المجتمع فى ظل النظام السابق، والتى جاءت تتويجاً لنضال وكفاح الشعب المصرى بكل طوائفه وفئاته، على أنها من مخلفات النظام الذى أطيح به والتى يجب تصفيتها يمثل انقلاباً على الثورة المصرية وروحها وضربة فى الصميم لتطلعات الشباب الذين خرجوا وضحوا بأرواحهم من أجل المزيد من الحقوق والمكاسب لهم وللأجيال القادمة. فلا ينبغى مثلاً العصف بمبدأ المواطنة لمجرد أن التعديلات التى أدخلت فى عام 2007 على دستور 1971 الدائم جعلتها المادة الأولى فى الدستور، باعتبار أنها من أعمال النظام الذى ثار الشعب عليه، أو لمجرد أن هناك مَن يرى أنها مخالفة للشريعة. وكذلك الحال بالنسبة لقانون الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية التى ثبتت حقوقاً للمرأة والطفل جرى العصف بها لسنوات طويلة، فهذه مكتسبات حققتها المرأة المصرية عبر نضال طويل واستندت إلى مطالب مصلحين اجتماعيين مستنيرين أرادوا تأسيس العلاقة الزوجية والعلاقة الأسرية على أسس سليمة تكفل الاستقرار الأسرى والمجتمعى. فلا يجوز بأى حال التراجع عن هذه المكاسب لمجرد أن الأكثرية، أو حتى الأغلبية، البرلمانية فى يد فصائل سياسية لها رأى مخالف تسبغ عليه طابعاً دينياً. وينبغى فى مثل هذه الأمور الدقيقة والتى تمس توازنات اجتماعية رئيسية الرجوع إلى أهل الرأى والخبرة، وتحكيم العقل والآراء الفقهية والدينية والسليمة كى لا ندفع المجتمع إلى كارثة لاعتبارات سياسية. ولعلنا لا نحيد عن سلامة القصد إذا قلنا إنه يتبقى لنا أن نستعين بالعقول المتفتحة التى أصدرت وثيقة الأزهر للحريات لكى تساعدنا بما لها من عميق المعرفة فى فهم الدين على العبور من مأزق التناقض الذى يدفعنا إليه البعض بين حقوق المرأة على المستوى الإنسانى والنفسى وبين طريقة خطابهم الدينى الذى يتجاوز حقيقة أن الله خلق الرجل والمرأة من دم واحد متساويين فى الحقوق والواجبات والحساب والثواب والضمير والعقل. رئيس أساقفة المجمع المقدس لكنائس القديس أثناسيوس للتواصل: [email protected]